الجن موجود.. والإتصال بينه وبين الإنس ممكن.. ورغم انه غير ملموس، أو محسوس للحواس العادية للإنسان، إلا أنه يؤدي أعمالا مادية تدركها وتلمسها هذه الحواس!! السبت: أنت، وأنا، وآخرون.. نصادف من حين إلي حين، رجالا أو نساء يأتون أفعالا غير مألوفة، تحار عقولنا في إيجاد تفسير لها، ويعجز إدراكنا العادي عن استيعابها.. فرجل يأمر قالبين من الطوب أن يتناطحا فإذا بهما يشتبكان في معركة تنتهي بأن يحطم أحدهما الآخر.. ورجل يمد يده في الهواء فيأتيك بحافظة نقودك التي نسيتها تحت وسادة سريرك في غرفة نومك!! ولو أن أحدا روي لك مثل هاتين الواقعتين، قد تقول أنها مجرد حكايات، كي لا ترهقك الدهشة والحيرة.. لكن حين يتاح لك أن تري مثل ذلك بعيني رأسك يصبح الأمر مختلفا، وتستيقظ فيك عشرات علامات الإستفهام والتعجب، ويتحول الأمر برمته الي لغز يحتم عليك أن تترك الباب مفتوحا امام الذين يتطوعون لتقديم أي تفسير يريحك من إرهاق التفكير.. حتي لو قال لك أحد هؤلاء أن غير المألوف من الأفعال يتم غالبا بمساعدة الجن!! وسواء كانت مثل هذه التفسيرات صادرة عن أهل علم، أو عن أهل ادعاء العلم، فإنها تستحق مناأن نتعامل معها بصدر رحب، وعقل متفتح، وأن نجتهد في البحث لها عن سند من الحقيقية، يؤيدها، أو يدحضها، حتي لا ندخل في متاهات تؤدي بنا إلي حالة نتأرجح فيها بين الحقيقة، واللا حقيقة! ولكن من هو الجن؟.. وما هي قدراته؟.. وما هي حدود تعامل البشر معه؟.. قبل الدخول في التفاصيل، لابد من الاشارة الي بعض الحقائق التي لايمكن انكارها، أو التشكيك فيها.. ومنها ما ورد في آيات من القرآن الكريم بوضوح لايحتاج تفسيره إلي اجتهاد.. فالله سبحانه وتعالي يقول في الآيتين »14» و»51» من سورة الرحمن: «خلق الإنسان من صلصال كالفخار.. وخلق الجان من مارج من نار».. ويقول جل شأنه في الآية »71» من سورة النمل: «وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون» ويقول أصدق القائلين في الآية »31» من سورة سبأ: «يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات» ويقول عز قوله في الآية «6» من سورة الجن: «وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا» الجن موجود إذن.. والإتصال بينه وبين الإنس ممكن.. وإذا كان الجن غير ملموس، أو محسوس بالنسبة للحواس العادية للإنسان، إلا أنه يستطيع أن يؤدي اعمالا ماديةتدركها وتلمسها هذه الحواس.. وإذا كان بعض الناس يقول انه يستطيع الإتصال بالجن، أو الإستعانة به، فإن عبء التفريق بين من يستطيع ومن لا يستطيع يقع علي عاتق كل منا بمفرده.. ولايوجد حتي الآن الإنسان الذي ولد من بطن أمه، قادرا علي التعامل مع الجن.. كلهم تدربوا وتعلموا ليتمكنوا بعد ذلك.. الدكتور داهش! في مدينة بيروت عرف اللبنانيون في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي رجلا اسمه «الدكتور داهش»، وعرفه المصريون ايضا عندما كان يعيش في القاهرة، ويتخذ من شقة في شارع سليمان باشا -طلعت حرب الآن- مقرا لنشاطه الغريب..ويقول اللبنانيون أن له معجزات، وأنه يساعد المحتاج، ويأخذ بيد الضعيف، وينصر المظلوم. والدكتور داهش نفسه لا يدعي انه صاحب معجزات، ويقول انه فقط يستطيع الاتصال بمن هم اقوي منه-يقصد الجن- وأنه استطاع أن يدرب نفسه علي هذه القدرة حتي أتقنها.. وهو مثل كل اللبنانيين يدس أنفه في أي شيء.. والسياسة في مقدمة كل شيء.. وكان صديقا لمعظم رجال السياسة والحكم، ويعتبر نفسه رسول سلام ووفاق بين الطوائف المتعددة المتخاصمة المتواجدة علي أرض لبنان التي تتأجج في باطنها نار البغضاء!! وقصص الدكتور داهش كثيرة ومثيرة.. في مقدمتها قصة القصر الذي اختاره ليكون سكنا له، هو وتابعه، الذي كان طبيبا، فترك الطب وأغلق عيادته ليكون تابعا للدكتور داهش وخادما له مدي حياته.. القصر يقع في احد أطراف بيروت، وكان مغلقا بعد أن تركه صاحبه الشيخ بشارة الخوري - أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال - لينتقل الي قصر الرئاسة.. وقد فوجيء الشيخ بشارة ذات يوم بمن يخبره بأن الدكتور داهش وخادمه يسكنان في قصره، فثار واستدعي وزير الداخلية، وطلب منه الذهاب الي القصر والقبض علي الدكتور الدجال.. وذهب الوزير بنفسه علي رأس قوة من رجال الامن، وساق الدكتور وخادمه الي سجن الرمل الذي يقع علي مشارف بيروت، وأشرف علي وضعهما في احدي الزنزانات تمهيدا لاحالتهما الي المحاكمة بتهمة احتلال قصر رئيس الجمهورية، وعاد مع رجاله الي القصر لجرد محتوياته، وتعيين حراسة عليه.. لكن المفاجأة المذهلة كانت في انتظاره داخل القصر، فقد وجد الدكتور داهش جالسا في هدوء علي احد المقاعد في غرفة الصالون، وبجانبه خادمة!! وهاج الوزير وماج، وساق الدكتور داهش وخادمه أمامه الي سجن الرمل مرة أخري.. وأغلق عليهما باب الزنزانة وسط حيرة وذهول مأمور السجن وضباطه وحراسه، ووضع مفتاح الزنزانة في جيبه، وعاد إلي القصر مرة أخري ليجد الدكتور داهش في استقباله علي سلاملك القصر، فوقف مذهولا، وتحسس جيبه، واخرج منه المفتاح فإذا به قطعة صغيرة من الخشب!! وقال الدكتور للوزير بكلمات هادئة واثقة: لا تتعب نفسك.. سأظل هنا لأنني أريد ذلك.. وقل للشيخ بشارة انه لن يخسر شيئا بوجودي في هذا القصر، وانه لن يكسب شيئا اذا احتفظ به خاليا!! وذهب الوزير، ووافق الشيخ بشارة الخوري علي بقاء الدكتور داهش وخادمه الطبيب فيه طوال مدة رئاسته!! وحكاية أخري من حكايات الدكتور داهش، وقعت تفاصيلها في مطار بيروت الدولي علي مسمع ومشهد من عدد من كبار الشخصيات اللبنانية، بينهم وزراء ونواب برلمانيون، وكبار رجال الدين من الطائفة السنية. كان الجميع، والدكتور داهش معهم، في انتظار الطائرة القادمة من البرازيل، لاستقبال مفتي المسلمين الذي كان يقوم بجولة في دول امريكا اللاتينية لزيارة المغتربين اللبنانيين وجمع التبرعات منهم.. وعندما وصلت الطائرة، ونزل المفتي، واخذ في مصافحة مستقبليه، قال له الدكتور داهش: لقد نسيت مسبحتك علي مقعد الطائرة.. وتحسس المفتي جيوبه، ثم قال: أجل، يبدو انني نسيتها بالفعل! ومد الدكتور داهش يده في الهواء، فإذا بالمسبحة بين أصابعه.. فسلمها للمفتي وسط دهشة وتصفيق المستقبلين!! الشيخ سليم الطهطاوي وإذا تركنا الدكتور داهش في بيروت، فإننا سنجد عشرات غيره في أماكن أخري ممن يستطيعون الإتصال بالجن والاستعانة به.. ومنهم من يستخدم هذه القدرة فيما ينفع الناس، ومنهم من يستخدمها في العبث مع الآخرين والسخرية منهم، أو في إلحاق الأذي بغيره. والقادرون علي الإستعانة بالجن يتصفون بصفات غير عادية، ولهم تصرفات غريبة، وسلوك أكثر غرابة.. وقد يختفي أحدهم عن أعين من يعرفونه لأيام، ثم يظهر فجأة كأن الارض انشقت ليخرج منها.. وعندما يسأله أحدهم أين كان، قد لا يرد عليه، وقد يرد بكلمات لا معني لها، وقد يشير بيده اشارة لا يفهم احد منها شيئا!! والغريب أنهم جميعا ينتهون الي نهايات مؤلمة.. بعضهم قد يصيبه مس يفقده القدرة علي إدراك ما حوله.. وبعضهم يهيم علي وجهه في الطرقات كحيوان ضال.. وبعضهم يموت مجهولا في مستشفي المجانين.. وبعضهم يشنق نفسه.. وبعضهم يشعل النار في جسده!! ومن أشهر اصحاب القدرة علي الاتصال بالجن والاستعانة به، الذين عرفتهم القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي، الشيخ سليم الطهطاوي.. كان رجلا معمما حافظا للقرآن الكريم، وكان معروفا لدي اشهر رجال السياسية والادب والفكر في مصر، امثال محمد محمود باشا، رئيس مجلس الوزراء، وانطون باشا الجميل، احد اصحاب جريدة «الأهرام»، وعبدالعزيز فهمي باشا الذي كان يرأس محكمة النقض ثم عضوا في مجلس الشيوخ، ثم عضوا بعد ذلك في المجمع اللغوي. وكان حنفي محمود- شقيق محمد محمود باشا واصدقاؤه يأخذون الشيخ سليم الطهطاوي الي مقهي البرلمان بميدان العتبة الخضراء، ليسري عنهم بمداعبة رواد المقهي علي طريقته. ومن تلك المداعبات أن يسأل أحد الجالسين عن نظارته.. وعندما يتحسس جيوبه ولايجدها، يخبره أنها موجودة في جيب الرجل الذي يشرب قهوته في هدوء ووقار في الجانب الآخر من المقهي.. ويذهب صاحب النظارة الي الرجل المشار اليه، ويطلب منه اخراج النظارة من جيبه.. ويتطور الأمر بين الرجلين الي مشادة، ثم مشاجرة بعد اكتشاف وجود النظارة في جيب الرجل الذي استولت عليه الدهشة.. بينما حنفي محمود واصدقاؤه مستغرقون في الضحك!! وذات يوم كان عبدالعزيز فهمي باشا في زيارة محمد محمود باشا في قصره بشارع الفلكي بالقاهرة، وأصر علي عدم انتظار الغداء متعللا بأنه مضطر للسفر إلي المنوفية، لإحضار ملف قضية ، كان قد أخذه إلي بيته هناك لدراسته، لكنه نسيه في درج مكتبه.. وعندما طلب منه محمد محمود باشا تأجيل السفر إلي الغد، أخبره أن القضية سوف تنظر في الصباح، ولابد أن يكون الملف موجودا.. وعندئذ أخبره محمد محمود باشا أن الملف سيجيء دون حاجة للسفر. وبينما كان عبدالعزيز فهمي باشا يعيد شرح الموقف، طلب محمد محمود باشا من شقيقه حنفي استدعاء الشيخ سليم الطهطاوي.. وعندما جاء الشيخ سأله محمد محمود باشا إذا كان يستطيع احضار ملف القضية الذي نسيه عبدالعزيز فهمي باشا في بيته بالمنوفية، اجاب بأنه يستطيع.. وطلب مفتاح البيت، وكتابة العنوان علي ورقة.. وتصور عبدالعزيز فهمي باشا أن الأمر كله لايخرج عن كونه مداعبة يراد بها استبقاؤه لتناول الغداء، لكنه اضطر أمام اصرار محمد محمود باشا، الي كتابة عنوان البيت وعنوان ملف القضية علي ورقة، واخراج المفتاح من جيبه، فأخذه الشيخ سليم ولفه في الورقة وقذف بها من نافذة الحجرة المطلة علي الشارع! وغضب عبدالعزيز فهمي باشا من سلوك الشيخ، ولكن قبل أن ينطق بكلمة، مد الشيخ الطهطاوي يده من النافذة، فإذا به يمسك الملف، والمفتاح ملفوفا في الورقة المكتوب عليها العنوان!! وهناك حكايات أخري عن نوادر الشيخ سليم الطهطاوي، وأعماله الغريبة التي كان يستعين فيها بالجن.. ولأنه كان وثيق الصلة بعدد كبير من رجال الفكر والأدب، فقد كتب عنه الكثيرون، وكان بينهم الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر، وأنطون باشا الجميل، صاحب «الأهرام».. أما محمود رمزي نظيم ابوالوفا، الشاعر، والزجال، ودارس علم الكف، فقد أفرد صفحات كتابة «بساط الريح» للعديد من حكايات الشيخ الطهطاوي وأعماله، التي كان يقوم بها علي مرأي ومسمع من الناس، في الشوارع، والمقاهي، والنوادي، وفي البيوت والقصور ايضا.. ان الساحة ليست مقفلة علي الدكتور داهش اللبناني، والشيخ الطهطاوي المصري.. فهناك الكثيرون الذين كان في استطاعتهم الاتصال بالجن والاستعانة به.. وأرجو أن أتمكن من الكتابة عنهم في يوميات مقبلة بإذن الله!!