من النوادر الفقهية الطريفة: ان المسجون ليس من الأحياء في الدنيا. ذلك ما ذكره الإمام المحقق ابن عابدين في حاشيته علي الدر المختار. فمن يحبس أو يسجن لا يعد من الأحياء في الدنيا. ودليل ذلك قول الله تعالي: "أو ينفوا من الأرض" فقد سمي الله السجن في هذا القول الكريم نفيا من الأرض. ولا ينفي الانسان من الأرض إلا بالموت. وقد كان هذا المعني للحبس مفهوما لدي القدامي. ومستقرا في الثقافة العربية. ولهذا يحكي ان الوزير أبا علي محمد بن مقلة حين حبسه الخليفة العباسي الراضي بالله المتوفي سنة 329ه. وكان ذلك الحبس في عام 322ه. انشد قصيدة من بحر الطويل قال فيها: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها. فلسنا من الموتي نعد ولا من الأحياء إذا جاءنا السجان يوما لحاجة. فرحنا وقلنا هذا من الدنيا. وربما كان هذا النوع من الموت أشد وقعا من الموت الذي تنتهي به حياة الانسان. ولهذا قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بموت. إنما الميت ميت الاحياء. إنما الميت من يعيش كئيبا. كاسفا باله قليل الرجاء.. ولأن السجن يعتبر موتا وخروجا من الحياة عند الفقهاء. فقد بنوا علي ذلك فروعا فقهية. منها اعتبار المسجون كالميت في أهلية التصرف حيث لا يملك أن يباشره وهو بين القضبان. وإذا استطال سجنه كان لزوجته ان تطلب فراقه خشية ما قد يصيبها من الفتنة في بعده عنها. ومن تلك الفروع: أنه لو حلف أنه لو كان في الدنيا اليوم. فحبس حتي مضي ذلك اليوم فإنه لا يحنث. لأنه بالحبس لم يكن في الدنيا. ولو قال لزوجته: ان بقيت في الدنيا غدا فأنت طالق. فحبست ولو في بيت فإنها لا تطلق لأن المعلق عليه لم يحدث وهو بقاؤها في الدنيا. إذ هي بالحبس خرجت منها. ولو اقسم أنه سيخرج فلانا من الحياة. فلو حبسه فإنه لا يحنث. والفروع التي وردت علي هذا المعني كثيرة. والتشريعات الوضعية قد تأثرت بهذا المعني الفقهي حين اعتبرت المسجون في عقوبة جناية ممنوعا من إدارة أمواله مدة اعتقاله. ولا يجوز للمحكوم عليه أن يتصرف في أمواله إلا إذا أذنت له المحكمة. وكل التزام يتعهد به مع عدم مراعاة إذن المحكمة يقع باطلا. وهذا ما نصت عليه المادة "25" من قانون العقوبات المصري والتشريع الوضعي وان كان يتفق مع التشريع الإسلامي في معني الحبس. إلا أن الأول يعتبره في معني الموت. والتشريع الإسلامي يعتبره موتا. لكنه في النهاية موت مؤقت بمدة الحبس. وذلك تخفيفا عن المسجون واعفاء له من المساءلة والحنث. اما في التشريع الوضعي فإن غاية اعتبار السجن موتا أو كالموت إنما هو من باب الاهانة للمسجون. ولهذا كان في الإسلام رحمة وفي القانون قسوة.