الماضي لا يمكن أن ينسي. مثلما الغد لايترك سرا مكتوما. وهاهي المرأة الجالسة أمامه.. يراها ترقبه بعينيها الثاقبتين وكأنها تستدعي للذاكرة ملامح صورة ناقصة ونبرات صوت تعرفه من قبل فيتذكر تلك الليلة البعيدة التي لا تزال تطارده كومضة خيال توقظ في عقله أحاديث متقطعة وذكريات لم تكتمل بعد. ليلة رآها لأول مرة كانت فتاة قروية فقيرة الحال طاهرة القلب والجسد تركت بيتها وأهلها وجاءت تدرس الفلسفة بجامعة الاسكندرية وكانت تهوي الأدب والشعر وتتهافت علي حضور صالونات الأدب للتعرف علي رموزه من شتي اللغات والأجناس.. تنصت باهتمام لما يقال بينما عينيها المندهشتين تشردان من النافذة إلي البحر. فالقمر والشاطيء وبهجة الموسيقي الهادئة الناعمة. كلها كانت تعيد إليها أطياف قريتها القاصية النائية فتتذكر وتحكي طويلا عن سلطة العمدة وسلطة قوانين سحيقة ظالمة والبيوت المتهاوية علي اليابسة مثل شواهد القبور العتيقة وحجارة من أبنية قديمة يختبيء خلفها اللصوص من الوافدين الغرباء وحقولا فسيحة من القمح والخضرة كانت للأطفال ملهي وهي مسروقة السنابل.. وخزائن ملأي بالخيرات في بيوت المُلاك الأثرياء والفقراء عبيد الأرض جائعون يبكون الظلم والغربة في العين والقلب والرأس والعدل غائب يكسر كل لحظة قلب مهزوم وينكس الأعناق والرؤوس. رويدا رويدا اكتملت صورة الأمس البعيد فغادر المائدة إلي حيث تجلس هي.. وأقبل النادل وطلب فنجان قهوة سادة وكوبا من عصير الفراولة مشروبها المفضل. قبل أن يبدأ الكلام سألته عنه.. الرجل الذي غواها حتي أحبته ثم هجرها إلي أخري وثانية وثالثة بل عشرات عرفهن زهرات متفتحة وسحقتهن أقدام الحيوان المختبيء في داخله. لم يدر بذهنه أبدا أن تسأله عنه بعد كل هذه السنوات التي مرت.. لكنها ألحت في السؤال من باب الفضول وليس اللهفة. والشوق فالجرح يشفي في وقت أسرع مما لو ترك مغلقا. وما حدث لا يستحق أن يذكر خصوصا وأن لها بيتا تعود إليه وتمتلك قطعة صغيرة من الأرض وقد عرفت كيف تستغني عن الآخرين خصوصا الرجال.. فراتبها من عملها وثمن المحصول يوفران لها ما تحتاجه من مال لمواصلة رحلة الحياة. في اليوم التالي ذهبت تسأل عنه في العنوان الذي ذكره لها.. قالت لها امرأة عجوز مسنة: الله يرحمه مات ويرقد في قبره منذ أكثر من عشر سنوات.. ولحقت به زوجته بعد عامين وله ولدان أحدهما فاسد شرير سرق خزنة الفلوس وهرب والآخر يعمل بالسياسة. لم يغمض لها جفن حتي عرفت أنه عضو في حزب معارض فراحت تتابع نشاطه حتي تمكنت من حضور إحدي ندواته.. هناك سمعته يتحدث عن الظلم ويستشهد علي رأيه بأسطورة خاتم جيجس التي تتلخص في أن راعيا يسمي جيجس كان يرعي مواشي لملك ليديا ففاجأة زلزال عنيف انشقت الأرض علي إثره فنزل في غور منها ليجد حصانا حديديا بجوفه جثة رجل يفوق حجمه جسم الانسان. وكانت الجثة عارية ليس بها سوي خاتم في إصبعها فأخذه جيجس وخرج إلي ظهر الأرض وعاد إلي رفاقه من الرعاة. وبينما هو جالس بينهم أدار الخاتم في إصبعه فاختفي ولما أداره مرة أخري عاد للظهور. وكرر هذه العملية مرات يختفي فيها ثم يعود للظهور ولما كان علي الرعاة أن يقدموا للملك تقريرا عن ماشيتهم تطوع جيجس بأن يحمل الرسالة إلي الملك. فلما دخل القصر قتل الملك وراود الملكة ثم استولي إلي الملك.. فالعدالة لها وجهان فلو أن هناك إثنين من الناس أحدهما عادل والآخر ظالم وأننا وهبنا كلا منهما خاتمين من هذا النوع فالعادل فيهما يستوي مع الظالم ما دام سيخفي عن الناس ظلمه.وما دام الظلم وسيلته إلي المنفعة والعدل مضيعة لمصالحة ومطامعه. سمعته أيضا يتحدث عن الديمقراطية وكيف يجب أن تأخذ بمبدأ اختيار الحكام والقضاة بالإنتخاب والقرعة إمعانا منها في المساواة بين جميع أفراد الشعب سواء كانوا أغنياء أم فقراء وأن تلتزم بمبدأ التصويت في الأمور العامة فتحترم رأي الأغلبية العددية. كان الشاب المعارض يتحدث بحماس منقطع النظير فتذكرت ما درسته في الكتب عن عصر الأساطير.. وتملكها حنين إلي العصر الذهبي الذي كان يعيش فيه الانسان في بساطة لا تعرف التعقيد.. وأسطورة بروتاجوراس يفسر بها كيف تطور الانسان من الحياة البدائية إلي الحياة المدنية فيروي أن الآلهة بعد أن وزعت المواهب علي أنواع الحيوان المختلفة لم تبق للانسان شيئا. ولكن الإله بروميثيوس حامي الانسان. وراعيه سرق له النار والفنون العملية وعلمه استخدامها ليدافع عن نفسه ويستطيع البقاء. وكان لابد لكي تنتظم حياته الاجتماعية من معرفة أخري. فوهبته الآلهة معرفة العدالة والعفة ونزاهة الضمير لترتقي حياته وعلاقاته الانسانية. ثم تعلم من المجتمع أن حاجاته لا تقتصر علي متطلبات الحياة المادية وإنما ينبغي للانسان أن يتذوق الفنون والآداب والجمال كي لا ينحرف ذوقه وأخلاقه يومها صفق له الحاضرون بحماس منقطع النظير وعندما غادرت المبني عائدة إلي بيتها واجهها الشارع خاليا من الزهور وكل الأشجار وعندما سألت عرفت أن الشاب المعارض هو نفسه الذي ارتكب مذبحة الأشجار لقد دمر خضرة الشارع وجماله وحوله لجراج لسيارات أعضاء الحزب.. مثله مثل أبيه الراحل ومعظم الجالسون علي عروش السياسة والثقافة والأدب ومنابر الدين والفكر والفن.. يجيدون فنون الخطابة والكلام ويتفاخرون بانحيازهم للحق والخير والجمال.. شعارهم العدل والمساواة فجميع المواطنين إخوة لأن الأرض هي أمهم جميعا.. لكن الله الذي خلقهم قد مزج في طبيعة بعضهم ذهبا ليكونوا حكاما وملوكا وأمراء..وأدخل في طبيعة البعض الآخر فضة ليكونوا حراسا وجنودا.. وخلط الباقين بالحديد والنحاس ليكونوا فلاحين وصناعا وموظفين يمثلون الرعية.. وبينما يختص الحكام بفضيلة الحكمة ويختص الحراس بفضيلة الشجاعة فإن فضيلة الشعب تكمن في التزامه العفة والتقشف بتنظيم احتياجاته وملذاته وشهواته.