حين طلع النهار غسل وجهه وارتدي ثيابه كاملة وألقي نظرة علي مفكرة صغيرة يحملها في جيبه تذكرة بمواعيده والمهام التي تنتظره منذ تسلم منصبه الجديد والكبير. وشد قامته ورسم علي وجهه ابتسامة مفتعلة وهو يحيي سائق سيارته الفارهة التي أصبحت جزءاً من المنصب. وأخرج من زجاجة لا تفارق جيبه قرصا صغيرا لا يحتاج إلي ماء لكي يبتلعه. وأحس بعد قليل بروحه تنتعش وتكاد تسبق السيارة وتحلق كعصفور. لكنه سرعان ما تذكر المرض الذي احتل جسده منذ تسلم منصبه الكبير بفعل الضغوط النفسية والعصبية وهذا الصراع الدائم بين أفكاره ومعتقداته ومبادئه وما يتطلبه المنصب من تضحيات وتنازلات. حتي أصبح يخاف الليل فحين يمسي وحده تماما مجردا من كل شيء وكل أحد لا يستطيع النوم فربما أدركه الموت ولم يتطهر بعد من خطاياه. ففي مثل سنه يدلي الرجال بشهاداتهم فيما كان ويكون ويحرز المقاتلون نصرهم أو هزيمتهم وسجله حافل بالهزائم. بينما في النور تختفي ملامحه الحقيقية تماما ومع بزوغ الضوء يسترد قدرته الكاملة علي الكذب والمراوغة والنفاق. وتختفي المسافة بين أولاد الحرام وأولاد الحلال وتختفي ايضا بين الحقيقة والزيف حيث للحقيقة الواحدة ألف وجه وألف لسان. يأخذه من تأملاته صوت عجلات المطاط الضخمة تدور ثم تصطف علي الجانبين. والشمس عين مفتوحة نظرتها ثابتة. والخوذات المعدنية المطفأة اللون تلمع تحتها والصفوف السوداء المضطربة السيئة الهندام تتساقط من عربات الأمن المركزي بصدمات مكتومة علي أقدام نحيلة مدعومة بجلد الأحذية الغليظ. بينما تتوافد تجمعات البشر علي اللجان لانتخاب من يمثلهم في البرلمان.. تجمعات حائرة مزعزعة القلب تنتظر وتتطلع في فضول قلق مكتوم.. عيونهم منتفخة من نوم مضطرب تلمع تحت غشاوتها أحلام وتمردات معظمهم من الفقراء المهمشين الذين دفعهم الجوع وذل الحاجة إلي بيع أصواتهم مقابل خروف أو معزة أو موبايل صيني أو ورقة نقدية وبطاطين. وبلطجية يتسلحون بالسنج والمطاوي والسكاكين لإرهاب انصار المرشحين الذين استأجروهم لتدعيم فرصهم في الفوز بالحصانة البرلمانية. وسحابات بيضاء من طلقات نارية تفر من أمامها التجمعات البشرية مشتتة بذعر غير محكوم علي مرأي ومسمع من رجال أمن ليس من سلطتهم التدخل الايجابي تحقيقا للديمقراطية التي تستلزم حياد الأمن التام. توقفت السيارة ونزل صاحب المنصب الكبير برفقة البودي جارد الذي هش الجموع المحتشدة بجسده الضخم ليدخل المسئول يدلي بصوته ثم يخرج لتنطلق به السيارة إلي هناك. يفتح نافذة مكتبه علي هواء النهر الصافي ومائه الساكن بفضيته المتوهجة التي تلمع تحت الشمس وصرخة عصفور وحيد في قلب الفراغ حارة ومتألمة كجرح سكين في جسد. فيتذكر حفيده الطفل عندما طلب منه عصفورا يراه عن قرب وهو الذي لم يفكر يوما بتأمل العصافير رغم نشأته في قرية تحيط بها الحقول من جميع الجهات. كما كانت تمتليء بالأجران التي تمتليء بدورها في مواسم الحصاد بالمحاصيل. وهنا وهناك كانت تطير اسراب العصافير. تملأ السماء وفروع الاشجار وأسطح البيوت. ودائما كانت تطير في جماعات فلم يفكر يوما أنه يوجد هناك عصفور واحد منفرد يتمني رؤيته عن قرب. يتذكر ايضا عندما سأله حفيده عن سر هروب العصافير حين يقترب منها. وما قاله له عن الخوف الذي يتملكها لو بقيت في مكانها لأنه سوف يمسك بها ويحرمها حرية الطيران والتغريد. والفرحة الغامرة التي رآها تلمع في عيون الصغير حين اشتري له قفصا به زوجان من عصافير الزينة الملونة ليراهما عن قرب. وعشرات الحكايات التي يرويها كل يوم عن ألعابهما في القفص والطريقة التي بها يأكلان ويشربان ويقفزان ويتناغيان ويتشاجران. حتي كان يوما أصيب فيه أحدهما بالمرض فكف عن الأكل واللعب والزقزقة فأطلق الصغير صراحهما ظنا منه أن العصافير قد تحتمل الجوع لكنها تكره ولا تحتمل الأقفاص. وقد أصبح مثل العصافير. قد يحتمل المرض لكنه ماعاد يحتمل قيود المنصب الذي تحول إلي قفص يطل من بين قضبانه فينزف جرحه العاري المكشوف ولا يملك غير صرخة مكتومة تحكي عذابه مع التصالح مع نصف الحل وقبول نصف التسوية والرضي بما يستطيع وهذا القهر الذي يخرس صوت الحقيقة. في القصص القديمة. قصص الحب العذري والحسي يثبت الفارس حبه بأن يقتل التنين. يخرج إلي الغابة الموحشة بعد أن يعطي حبيبته منديلا أو شعارا. ويمضي وحده يجتاز كل اختبار ويبلو كل محنة ويتحمل المشقة حتي يقتل التنين. وقد أحب هذا الوطن حتي الثمالة لكنه لم يقتل التنين. بل يعيش معه.. اسنانه مغروزة في قلبه متعانقين بلا فراق ابدا. ومن أسنان التنين المغروزة في قلبه تسيل أنات الفقراء الذين يعيشون في فقر مدقع بدون كهرباء أو مياه نظيفة أو رعاية صحية أو حتي طعام رديء يملأ بطونهم فيستطيعون النوم ويسمع حكايات المظاليم الذين يرتادون المقاهي الفقيرة بحثا عن شيء من كبرياء يمنحهم اياه الاحساس بالعدالة والمساواة حيث يرتادها الفقير والغني والمتعلم والجاهل وتختفي بين روادها الفوارق الطبقية والدينية وتصبح مكانا للتواصل الاجتماعي.. وهذا العنف الذي يلطخ جبين الانسانية. يعتنقه هؤلاء الذين يمتلكون المزيد من القوة والثروة والسلطة. ولا سبيل إلي إلغاء العنف الا بتوازن القوي وقد ظل يتمني أن يحقق الله توازنا طبيعيا بين قوي البشر كهذا التوازن الذي حققه بين النجوم وأفلاكها حتي طال انتظاره وأدرك انه يتحتم علي الانسان وحده ان يصل إلي التوازن عبر بحر من الحيل والألاعيب والدم والعنف. يفاجئه احساس بألم يثقب قلبه المريض فيتناول حبة دواء ويجلس شاردا يستجلب بقوة طمأنينة وهدوءا وراحة تخرجه من عناء يومه الطويل. وعندما يعود إلي بيته يتأمل حفيده النائم في فراشه الوثير ويحتضنه بعينيه فالحنان الذي له في قلبه يملأ عالمه الحزين.. عالم يحكمه عقلان احدهما ظاهر طيب والآخر شرير خفي.. عالم قاس سرقه من زمنه الخاص الذي رحل في سحاب الذكريات ومتاهات المنصب.. زمن يفتقده الآن في الضجيج والزحام والعنف وايقاع العصر الذي يوقد مشاعل النار والمرارة التي لا تنطفيء. يرتفع رنين هاتفه المحمول. لا يعرف ماذا قال له وما لم يقل وهل هو الحقيقة أم وهم ينتزعه انتزاعا من مخالب الواقع؟ لا يريد أن يعرف فالنتيجة حتمية ومعروفة ان يفوز الحزب الحاكم بأغلبية ساحقة ليست معرفة. في ظل آليات وسياسات وقوانين تحترم احكام القضاء وبرنامج وطني يهدف لرفع المعاناة عن الشعب. يتناول عشاؤه وحبة منومة ويغرق في النوم. وعندما يطلع النهار يغسل وجهه ويرتدي ثيابه كاملة ويلقي نظرة علي مفكرة صغيرة في جيبه تذكره بمواعيده والمهام التي تنتظره منذ تسلم منصبه الجديد والكبير. ويخرج من زجاجة لا تفارق جيبه قرصا صغيرا لا يحتاج الي ماء لكي يبتلعه. لكنه لا يحس بروحه تنتعش وتكاد تسبق السيارة وتحلق كعصفور إنما كالسمك الطائر اذا ارتفع في الهواء أكله الطير واذا هبط إلي الماء ابتلعته الأسماك.