أمواج عاتية لايستطيع مصارعتها إلا سباح ماهر كلما انتهي من موجة فاجأته أخري أشد وسط منافسة شديدة من سباحين آخرين مهرة أيضا.. كل منهم في عنقه طوفان من البشر.. وكل منهم يريد الوصول بحجاجه ونفسه إلي بر الأمان.. هذا هو موسم الحج.. وإذا كان الجميع هنا يعتبرون مشقة الحج في أداء المناسك والزحام ومشقته فإن آخرين ومسئولين من البعثات يكون حجهم مختلفا فالمشقة بدأت مبكرا منذ التفاوض علي تقديم أفضل الخدمات بأنسب الأسعار.. أسعار تناسب فقراء الحجاج.. وخدمات تليق بزوار الكعبة والبيت الحرام مع الأخذ في الاعتبار احترام لوائح وقوانين وقرارات وتشريعات وعادات وتقاليد وظروف الطرف الاخر في المفاوضات مع التماس العذر كلما صادفتك مشقة أو مشكلة أو أي قرار يصدر مفاجئا لك أو لحجاجك أو تأخر في خدمة معينة من الخدمات المتعددة والمتتالية التي تقدم لهذه الأمواج الهادرة من البشر. وهنا لابد من توافر الخبرة والحنكة في التصرف وإلا فإن المركب ستغرق ولو حدث هذا فلن يستطيع أحد إنقاذك لأن الجميع معذور أيضا وكل مشغول بطائره في عنقه وتطارده مطالب عديدة لطبائع مختلفة ومتناقضة من البشر.. مطالب صحية ونفسية وخدمية لا حصر لها. ثم بعد ذلك فإنك مطالب بالمرور اليومي علي الحجاج للاحتكاك المباشر بهم والاقتراب منهم لتعرف إلي أي حد نجحت وإلي أي حد لم ينصلح مجهودك ولا مفاوضاتك للمسيرة هباء.. وإلي أي حد حققت مطالب الحجاج. ما لا أتوقعه هذا لا يخص البعثة المصرية فقط ولكن ينطبق علي جميع البعثات.. غير أني ما شهدته هنا لم أكن أتوقعه.. لم أكن أصدق أن يقف مسئول كبير يتصبب عرقا.. فقد تعودت أن أجد المسئولين وأراهم بالكرافتات والياقات البيضاء فقط يسيرون علي البساط الأحمر.. ولكن هذا الرجل لم يتمنعه سنه ولا صحته ولا مقامه من أن يقف وسط المئات يتصبب عرقا.. وأنا هنا لا أبالغ.. لا أبالغ وأنا في البلد الأمين أتمني وأرجو رضا الله وقبوله.. المسئول الكبير يدور حول فنادق الحجاج وبينها ويتنقل من واحد إلي آخر ليستمع بنفسه إلي مطالب الحجاج ويجاهد لتحقيقها بقدر امكانية وما توفر له أشهد أن هذا ما يحدث وما رأيته.. وأشهد أنه كان طويل البال مع كل من يستمع إليهم.. وأشهد أنه كان يأمر مساعديه بتحقيق أي مطلب لا يكون تحقيقه مستحيلا.. وأشهد أن البعض هنا كان يتحدث في أمور لا علاقة لها بالحج. مثل رخصة المرور مثلا.. وكان الرجل يستمع بابتسامته المعهودة دون تبرم أو ضيق ويطالب مساعديه ببحث المشاكل والتأكد من صحتها ثم العمل علي حلها.. أشهد أن رجل الداخلية في الأراضي المقدسة اللواء الدكتور صلاح هاشم مساعد أول وزير الداخلية للشئون الإدارية ورئيس الجهاز التنفيذي للحج ورئيس بعثة حج القرعة يتحاور مع الجميع هنا بقلب مفتوح.. نعم بقلب مفتوح حتي ولو بدر من شخص.. أي شخص سوء تصرف ؟؟؟؟؟؟ من المتعاطفين أبدا مع ضباط الداخلية.. وهم ليسوا مصادري ولامصلحة لي في الشهادة لصالح أحد منهم.ولكن ما رأيته فاق بكثير ما توقعته..أشهد أن أحد الحجاج طالب اللواء هاشم بتكريم الضباط المشرفين علي الفندق الذي يقيم فيه. اعتراف ومع هذا كله فإن السؤال الذي يلح علي الجميع.. إذا كان كل هذا صحيحا فلماذا توجد في الحج مشاكل.. ومشاكل في الحقائب.. مشاكل في التفويج.. مشاكل في التسكين وغيرها والاجابة علي هذا السؤال هي بالاعتراف المباشر بوجود كل ما سبق نعم.. ومن يقول غير ذلك فهو كاذب أو علي الأقل وعلي فرض حسن النية فهو واهم..نعم كثيرون يجأرون بالشكوي ولكن كثيرين آخرين وهم الأغلب لم يكونوا يتوقعون أن تقدم لهم الخدمات في موسم الحج بسهولة ربما لم يجربوها في القاهرة وربما يكون هذا أيضا السبب في فرط اعجاب واندهاش البعض.. من وجود مسئول كبير وسطهم يحدثهم وشاشات عرض في الفنادق تعرض عليهم مناسكهم.. ووعاظ متوفرون يشرحون المناسك في الفنادق واعلانات بميعاد الندوات وتعليمات الداخلية في كل مكان بالفنادق.. والضباط متواجدون أيضا للاستماع إلي أي شكوي.. ومن الناس من ينطق بالطيب وفيهم من ينطق بالخبيث ولكن الجميع يتحمل ابتغاء لرضا الله في البلد الحرام.. والمسئولون يدونون ما يكون قد وقع من خطأ لتجنبه في الموسم القادم.. فلأول مرة أعرف أن للحج مجلداً.. نعم مجلد تدون فيه كل صغيرة وكبيرة عن الموسم للاستفادة من هذه المجلدات في كل موسم حج. ومع ذلك كان لي بعض التحفظات.. تحظات عرفتها ممن التقيت بهم من الحجاج مثل مشاكل الحقائب التي اشتكي البعض من عدم وصولها إلي مقر إقامتهم في الفنادق أو تعرضها للتلف والكسر.. فسألت مسئولا في البعثة.. أجاب بسؤال آخر.. ألم تسمع عن هذه الأمور في السفريات العادية جدا وبعيدا عن الحج.. أجبت سمعت مرات عديدة ما تقول .. قال فما بالك الآن وأنت وسط هذا الكم الهائل من البشر الذي لا يتنقل مرة واحدة ولكن يتنقل في أماكن مختلفة عدة مرات.. قلت ولكن ما ذكرته لايكون مبعوثا ولا مسافرا بترتيبات معينة ونظام تفويج معروف ومدروس وإن كان شاقا كما هو في موسم الحج.. أجاب المسئول.. هل تتصور أنك تتصرف وحدك هنا في كل شيء ألا يشاركك طرف آخر مسئوليته أكبر منك.. وإذا كنت مسئولا عن بعثة واحدة فهو مسئول عن كل بعثات العالم.. ألا تري ما يحدث حولك وطوفان البشر يتزايد كل يوم.. وسط هذا كله لابد أن يحدث خطأ خاصة وأن من يقدمون الخدمات ليسوا ملائكة معصومين.. غير أن هناك فرقا كبيرا بين خطأ متعمد وهو مالا نوافق عليه ولا نقره ويتعارض المسئول عنه فوراً للمساءلة وخطأ آخر يحدث رغما عنك. وهذا ما لا تستطيع تجنبه وإذا كان المجتهد المصيب له أجران فإن المجتهد المخطيء له أجر.. وهذا ليس كلامي ولكنه حديث الرسول صلي الله عليه وسلم أي أن الدين نفسه كافأ المجتهد المخطيء بأجر فما بالنا نريد أن ننصب له الفلكة؟ غرائب ومع ذلك يواصل المسئول حديثه فإن مسألة الحقائب بالذات فيها غرائب كثيرة.. قلت مثل ماذا أجاب مثل عدم كتابة الأسماء علي الحقائب.. فكيف أعرف أصحابها برر هل أفتشها؟.. ومثل العثور علي حقائب لا يتم الابلاغ عنها فتكون عندي حقائب أكثرمن البلاغات؟ ومع ذلك نحاول بشتي الطرق الوصول إلي أصحابها.. أرجو أن تساعدونا.. ثم قال هل نحن الآن كنا علي موعد.. أو هل كنت أعلم أنك ستسأل عن حقائب الحجاج؟ أجبت لا.. فقال الرجل.. انظر خلفك وكنا في فندق سيمي دار النعايم بالمدينة المنورة قبل أن يتم التفويج إلي مكة. نظرت خلفي وإذا بالفندق وجدرانه وأبوابه مليئة باعلانات وزارة الداخلية ترشد الجميع بكيفية الحفاظ علي الحقائب.. وكيفية وصولها.. وتنبه حجاج كل محافظة إلي كيفية عثور كل حاج علي حقيبته وكيفية الابلاغ عنها لو فقدها. ثم أضاف التوجيهات عندنا في هذه الأمور ليست شفوية فقط بل اننا نكتب الارشادات للحجاج في كل فندق ليتذكرها الحاج في عدد مرات دخوله وخروجه ومع ذلك تحدث أخطاء. انتقلت إلي مشكلة أخري.. أثناء تنقلي بين الحجاج سألت الحاجة سليمة من حلوان سؤالا سلبيا عن المشاكل وليس عن الخدمات فكانت إجابتها بالايجاب.. ألححت عليها بالسؤال قائلا لا يمكن ألا تكون هناك مشاكل.. لو كتبنا ذلك فسيقولون هؤلاء كذابون.. حاولت السيدة المسنة تجميع شتات أفكارها ثم قالت نحن لا نستطيع "تسخين" الأكل أي أنه لا يوجد سخان أو بوتوجاز في غرفتي.. أخذت الشكوي وهرولت للمسئول أستوضح الأمر.. ولكن الرجل فاجأني بأن هذه ليست مسئوليته.. ولا يستطيع أحد الحديث عنها لأن المسئولين عن الحج هنا يمنعون مثل هذه الأشياء حتي لا تحدث حرائق بسبب الاستعمال الخاطيء يمكن أن يسبب خسائر كثيرة في البشر وأمتعة الحجاج.. ولابد أن يشعر المسئولون هنا بأنك أيضا تقدر المسئولية فلا تناقش في أمور قد تسبب حرجا لك فسألت عن تخلف بعض الحجاج عن التفويج إلي مكة. أجاب هناك أشياء يجب أن نصارح بها الاعلام وأخري لا نستطيع ولو اعتقد البعض أنك مخطيء ولكي أعتقد أن الحجاج عرفوا الحقيقة في هذا الموضوع وكيف كنت أبحث بنفسي عن جوازات سفرهم. يوم التروية انتقلت إلي حديث أكثر حساسية بين الحجاج هذا العام وهو يوم التروية.. فقد كان تمسك الحجاج بالذهاب إلي مني في هذا اليوم واضحا.. ومسولو البعثة مصرون علي أن هذا ليس موضوعا في الخطة حرصاعلي سلامة الحجاج والقرار تم اتخاذه عقب اجتماع حضره وزير الأوقاف و70 واعظا وصلنا فيه إلي أبسط التيسيرات لتأدية المناسك.. وكان لابد ألا أترك المسألة تمر بهذه السهولة.. فلسنا في معرض الحديث عن خدمة ولكننا نتحدث عن مناسك نعجل بها جميعا إلي الله ليرضي وكنت حريصا علي مقابلة واعظ ديني أشعر تجاهه بالكفاءة والاخلاص لأسأله.. لأنني شخصيا تصرفت بناء علي فتواه إلي أن عثرت عليه الدكتور عقيل محمد عقيل امام وخطيب مسجد العارف بالله بسوهاج وحاصل علي الدكتوراة في تفسير وعلوم القرآن الكريم ورسالته بعنوان "الدرر في تفسير القرآن العظيم" أشهد بأني لاحظت الصلاح علي وجه الرجل. قلت له أنا شخصيا سأتصرف بناء علي فتواك.. أذهب إلي مني يوم التروية ومنها إلي عرفات.. أم أذهب مع البعثة إلي عرفات مباشرة.. ما هي الاجابة الصحيحة المسئول عنها وحدك أمام الله وحديثك لن يعرفه غيري أرجوك أريد معرفة النسك الصحيح؟ أجاب الرجل أنت الآن أمام شيئين لا ثالث لهما.. فرض وسنة فأيهما الأحق.. قلت الفرض طبعا.. تابع الرجل حديثه الفرض هنا الذي أتحدث عنه هوالحفاظ علي سلامة وأرواح الناس.. لم أجد حرجا في قطع حديث الرجل قائلا ولكن هذا يحدث كل عام.. فما الجديد الزحام موجود كل عام. أجاب الرجل ولكن المسئولين قالوا إنه ازداد هذا العام وهو خطر ويجدون حرجا كبيرا في الحفاظ علي سلامة الحجاج خاصة وأن الذهاب إلي مني يوم التروية سنة وليس فرضا وتركه لا يوجب دما ولا صياما ولا جبرا.. فلماذا أشدد علي نفسي وأحمل المسئولين مالا يطيقون؟.. هذا في حد ذاته حرام.. وإذا تعارضت السنة مع الفرض فلابد أن أقدم الفرض قولا واحدا فما بالك إذا كان الفرض هوالحفاظ علي الأرواح ووجدتها فرصة لأسأل الرجل عن المشاكل والمعوقات التي قابلها هنا في إقامته.. أجاب بصراحة كل شيء ممتاز.. وتعامل الضباط مع الناس معاملة طيبة وهنا انتهي حديثي مع الرجل .. ثم هرولت مسرعا أحاول اللحاق بمسئول البعثة الذي يواصل جولاته الشاقة مع ضباطه ومساعديه.