في كل عام يتحدثون في ذكري رحيل العندليب عن حياته ومرضه وزواجه وثروته وفقره ومعاناته والأيام الأخيرة قبل رحيله.. وبعد 42 عاماً.. ماذا تبقي من عبدالحليم حافظ.. ولماذا استمرت مدرسته مفتوحة رغم وقتنا هذا.. لكي تتحقق المقولة الشهيرة كم من الاموات وهم أحياء بما قدموا.. وكم من الاحياء في عداد الأموات.. لانهم بالونات منتفخة بالاكاذيب والدعاية الفارغة والفن السطحي الذي لا جذور له. مدرسة عبدالحليم مستمرة لان قانونها: - "قبل ان تغني للناس والوطن والحياة.. عليك أن تحب الناس وتعشق الوطن وتفهم الحياة" وأهم مناهج المدرسة.. انها تكشف لنا الفارق بين "من يغني لنا ومن يغني علينا". في هذا العام ندخل الي فصول المدرسة ونقدم أهم دروسها مجانا.. لمن اراد ان يدرك ويعي.. معني كلمة الفن.. و ماذا ننتظر من الفنان الحقيقي الأصيل في عصر الشفط والنفج والمواد الصناعية والحناجر المزيفة. الحصة الأولي * لن تنجح وحدك : الفنان ابن عصره.. وعبدالحليم كان حوله الصحفي "مصطفي أمين واحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين ومحمود عوض". كان حوله الشعراء "مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وفتحي قورة واسماعيل الحبروك وسمير محبوب ومحمد حمزة والابنودي". ومعه في كل خطوة وقد نجحوا معا.. "محمد الموجي - كمال الطويل - بليغ حمدي". الفنان مؤسسة تحتاج الي اسلوب عمل وخطة.. وادارة جيدة للموهبة.. متي يغني وكيف يغني ومتي يتكلم ومتي يسكت. في المثل الشعبي يقولون "عدوك ابن كارك": وهو كلام ينطبق علي الفاشل والكسول وصاحب الموهبة المتواضعة.. لكن الناجح لايعرف الا الناجحين من أمثاله.. فهو يدرك جيدا ان كل فنان "بصمة" لايمكن ان تتكرر. واذا كان هذا المثل صحيحا فما قولك بمنطق التجارة عن تجار الذهب وقد جمعتهم الصاغة وقد تجاوروا فيها والتصق المحل بالمحل وكلهم يبيعون ويربحون.. وبنفس المنطق تجد تجار الملابس ومستلزمات الاعياد والافراح في العتبة. الحصة الثانية * من أنا ؟ قد يستغرق الفنان الحقيقي مثل عبدالحليم وقتا طويلا وهو يبحث عن أغنية يحلم بها. وقد بدأ من نفسه ومن معاناته وأوجاعه.. وحوله حزنه الخاص.. الي رسالة شجن.. تمس قلب كل مجروح.. وتداوي احزان كل عاشق. ظهر عبدالحليم في عصر عمالقة الغناء: عبدالمطلب وكارم محمود وعبدالعزيز محمود وليلي مراد وشادية وفايزة ونجاة ومحمد فوزي وعلي رأس كل هؤلاء محمد عبدالوهاب وام كلثوم وفريد الاطرش.. ودرس حليم الخريطة الغنائية جيدا.. وسأل نفسه مرارا وتكرارا "مين أنا"؟.. انا تلميذ عبدالوهاب ثم شريكه.. وانا ابن ام كلثوم.. وانا صديق فريد الاطرش له لونه ولي لون وظل سنوات يجرب ويبحث ويفتش ويقرأ عصره كله وقرر ان يكون صوت ثورة يوليو.. وهي ايضا اختارته ومن هنا أمسك "الموجة" التي يمكنها ان تحمله برفق الي اعلي وبدون تهور.. ولهذا اصبح ايقونة للعواطف والمشاعر.. ورمزا وتاريخا غنائيا لثورة يوليو في كل خطواتها.. وعلي ضفاف حنجرته تقرأ وتسمع وتري الاحداث الخالدة في تاريخ البلد. الحصة الثالثة * بدون وعي تخسر؟ مهما كانت موهبتك اذا لم تدعمها بثقافة ووعي بكل ما يدور حولك في بيتك وشارعك ومدينتك وبلدك كله.. بل والعالم.. ستظل معلقا في الهواء أو مجرد "تقليعة" شغلك الشاغل "اللوك".. والناتو والسوالف.. والاهتمام بجملة موسيقية غالبا مسروقة من ألحان اوروبية والاعتماد علي الايقاع الراقص.. حتي ان الاغنيات علي اختلافها هي اغنية واحدة. فاذا ذهبنا الي عبدالحليم سنجده قد ذهب الي قصائد الشاعر الكبير نزار قباني وقبلها قدم قصائد كامل الشناوي وكان يختار كلماته بعناية فائقة.. ثم يرشح لها الملحن المناسب.. والاهم من كل هذا ان تتناسب الاغنية مع الظروف الذي تعيشه البلاد والعباء. عبدالحليم الذي لم يتعلم ولم يحصل علي شهادة سوي الدراسة الحرة للموسيقي.. استطاع ان يعوض ذلك بثقافة وقراءة والاقتراب من كبار المفكرين والادباء والسياسيين وقد سأل العندليب عشرات المرات لماذا استمر الموسيقار عبدالوهاب علي القمة لسنوات؟ واختار الاجابة التي تناسبه فلم يحاول الفذلكة علي انه ملحن لمجرد انه عرف جملة موسيقية وهو دارس وكانت قيادته للفرقة الموسيقية هي اشبه بعملية الاحماء والتسخين والانسجام بينه وبين كل عازف.. والاحساس بكل آلة في الفرقة.. في الوقت الحالي.. يتم تسجيل كل آلة علي حدة.. ويسجل المغني بصوته منفردا بعد اكتمال اللحن وهي عملية اشبه بالفارق بين ميلاد طفل طبيعي واخر من اطفال الانابيب. الحصة الرابعة * هل تجيد التمثيل؟ اغلب اجيال المغنيين والمغنيات حاولت السينما الاستفادة من شهرتهم.. فعلتها مع عبدالوهاب وام كلثوم وكارم وفازية ونجاة.. لكن قلة فهم نجحت في الجمع بين التمثيل والغناء وكتبت لنفسها الخلود. وعلي رأسهم حليم وشادية ومحمد فوزي ونجاح احد الافلام للمطرب لايعني حضوره المميز كممثل.. وعبدالحليم مارس التمثيل بالاحساس العالي.. وهو ايضا مفتاح نجاح كمطرب. وقد حاول عبدالحليم أن يتطور وفعلها بدون أن يفقد وقاره واحترامه لجمهوره ولنفسه.. الآن المغني يطلع بالشورت ويمارس التنطيط والتهريج مع الجمهور كأنه في ماتش كورة.. فالمهم عنده أن يصفق معه الجمهور علي الواحدة.. وهو ما يصلح مع راقصة وليس مع مطرب يعيش حالة فنية ووجدانية وإنسانية مع ما يقول. درس إضافي من المفتش أنيس منصور دخل الكاتب الكبير أنيس منصور علي عبدالحليم حافظ وهو طريح الفراش في أحد مستشفيات باريس.. ولاحظ ان الاضاءة خافتة وهو مع أوجاعه وحده فقال له أنيس: - يا سبحان الله كل الملايين التي تحيط بك في كل مكان.. لكنك هنا مع المرض وحدك.. وبكي حليم واعتذر أنيس. ولما مات حليم كتب منصور: بموت العندليب اختفي من حياتنا أجمل الأصوات.. لقد قابلني في بداية مشواره واكتشفت انه يقرأ لي ويتابعني.. وكنت أراه طفلا صغيرها عنده أحلامه الكبيرة وساعده علي التفوق هذا الذكاء الذي يلمع في عينيه.