في القرآن بيان لحقيقتين منفصلتين ولكنهما متكاملتان. الأولي منهما: تتصل بهذه الخاصية البشرية والفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها. وهي: أنه اجتماعي بطبعه. وأنه مدني بفطرته. وهذا الاجتماع وتلك المدنية خاصية في النوع البشري. لا تستقيم إلا علي أساس من الألفة. وإلا علي قاعدة من الوئام. والألفة والوئام قد نظمتها الشريعة الإسلامية تنظيماً يدعو إلي الإعجاب. ويصرف إلي العجب. والثانية من هاتين الحقيقتين: هي أنه لم يعهد بالمحاسبة علي التوجه الديني إلي أحد من خلقه. وإنما احتفظ بهذه المحاسبة لنفسه. وليس لأحد أن يسأله عن كيفية هذه المحاسبة ولا عن نوعها. فالأمر فيها لله وحده. ونحن في هذه السطور سوف نشير إلي هاتين الحقيقتين بقليل من التفصيل وبشيء من الإشارة كي يجلو الأمر ويتضح الطريق. أما أصل الاجتماع والرغبة في الحفاظ عليه. ففي تاريخ الإسلام ونصوصه الشيء الكثير الذي يدل علي ذلك. يشير إلي بعضه في إطار هذا النص من خواتيم سورة البقرة. وهو نص سنبين الجو الذي نزل فيه بما بين يدينا من الروايات. ففي مسند أحمد وصحيح مسلم إلي أبي هريرة قال: "لما نزلت: "وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" اشتد ذلك علي الصحابة فأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم جثوا علي الركب. فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: "سمعنا وعصينا"؟ بل قولوا: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما اقترأها القوم وذللت بها ألسنتهم. أنزل الله في إثرها: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير...." الآية.. فلما فعلوا ذلك نسخها الله. فأنزل: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" إلي آخرها.. وفي مسلم وغيره نحوه إلي ابن عباس. ومن يتأمل في هذه الآية يجد أن محتواها إنما هو أساس متين لسلامة الاجتماع وصحة التمدين والائتلاف. فمطلعها: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" فمن تكليفات الله للرسول خاصة أن يؤمن أولاً وقبل كل شيء بهذه الصلة بينه وبين ربه. فهو شاهد الوحي الوحيد. ولابد أن يكون علي إيمان كامل بما أنزله الله إليه. والمؤمنون ينضمون إليه يشاركونه هذا الإيمان الذي سبقهم هو إليه.. ثم إن الرسول والذين معه يبدأون رحلة الإيمان التفصيلية. فهم يؤمنون بالله أولاً. إذ الإيمان بالله في الإسلام قاعدة الأساس. وقاعدة المنهج الذي حكم الحياة. وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد. وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك. الإيمان بالله معناه إفراده سبحانه بالألوهية والربوبية والعبادة. ومن ثم إفراده بالسيادة علي ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة.