كنت بدأت سلسلة لقاءات مع رواد السينما وفكرت في المستشار مصطفي درويش قاضي مجلس الدولة الذي أسندت إليه مهمة الرقابة علي السينما بعد هزيمة 1967 . كان الأستاذ ناقدا لنفسه قبل أن يكون ناقدا لآخرين. يصف كتاباته بأنها مقيلة. أي مقال قصير يقصد عموداً كان ينشر في مجلة أسبوعية. وعلي قصر المقال وقلة عدد كلماته كان يتميز برأي متفرد ومعلومات مكثفة من متابعاته لأحدث الأفلام يحضرها بنفسه من ألمانيا التي كان يسافر إليها كثيرا. أو يوصي عليها فيرسلها له -ابن الشقيقة- يقولها بالفصحي ويضغط علي حرف القاف. شقيقته سيدة الأرستقراطية كان يعيش معها في منزل الوالد بوسط القاهرة. ولها ابن وحيد. ابنه أيضا. فالخال والد. يقولها ويضحك ضحكة صغيرة. توفيت أخته منذ سنوات وازدادت وحدته وكانت هناك مكالمة دولية يومية مع ابن الشقيقة حضرت احداها أثناء زيارتي له. الزيارة التي تكررت وكنت أمر عليه للدردشة والاتفاق علي الفيلم الذي سيعرضه ضمن عروض جمعية نقاد السينما المصريين -عضو الفيبريسي- في برنامج سميناه مختارات مصطفي درويش. كان ينسخ نسخة من الأصل الذي يقتنيه ونتأكد من صلاحيته للعرض. يأتي في موعده تماما يشرب شايه وهو يتهيأ لتقديم الفيلم مع النقاد بينما تنطلق تسمياته الساخرة التي تطال الجميع فهذا بالفريك وهذه فامباير يضحك قبل ابتسامتنا المندهشة. تقديس العمل ودقة المواعيد وندرة الاختيارات صفات جدير بها الناقد المثقف الذي عمل قاضيا لفن السينما في أصعب ظرف تاريخية مرت علي مصر. علاقته بثروت عكاشة وانفتاحه علي سينما العالم لتعويض منع عرض الأفلام الأمريكية بعد قرار عبد الناصر بمقاطعة أمريكا لوقوفها ضدنا في حربنا مع اسرائيل. هذا المنع الذي بسببه شاهدنا أفلاما إيطالية وفرنسية وهندية تعرض عرضا عاما في دور السينما. والرقيب مصطفي درويش يسمح بعرض أفلام سياسية. وأفلام فنية دون حذف ما قد يوجد بها من مشاهد غير معتادة علي ذائقة المشاهدين. وقتها سمح أيضا بعرض أفلام مصرية بدا أنها تهاجم عبد الناصر شخصيا ونظام حكمه. وأشهرها فيلم ¢ شيء من الخوف ¢ الذي رفض عبد الناصر قرارات الرقباء وطلب منهم السماح بعرضه. سمعت من توفيق صالح أن عبد الناصر قال إذا كنا هكذا فلنستحق ما يجري لنا. ويبقي لنا مصطفي درويش أول المتحمسين لشادي عبد السلام وفيلمه المومياء. وللمخرجة عطيات الأبنودي في كل أفلامها التسجيلية الهامة. وصداقته بها حتي إنها كانت حريصة رغم مرضها علي حضور الاحتفال بعيد ميلاده في إطار مشروع فريدة مرعي بتوثيق مسيرة رواد السينما والاحتفال بهم وسط من يختارونه من أصدقاء. مضت أيام وتغيرت أحوال واستمر تواصلي معه تليفونيا لأطمئن علي أحوال المثقف العائش وحيدا في 13ش البستان بالقاهرة متمتعا بأحدث وأجمل الأفلام. راضيا بما لديه. ساخرا من كل من حوله مكتفيا بحب ابن الشقيقة. ابن أخته الوحيدة. الوحيد الذي استقبل عزاءه بعد الرحيل في الرابع من مايو 2017 قبل ذكري هزيمة 1967 بشهر واحد. تلك الهزيمة التي ارتبط عمله بها. توفي الساخر المستشار مصطفي درويش بعد غريمه الناقد سمير فريد. وبعد زملائه يعقوب وهبي وأحمد الحضري. جيلين متعاقبين من نقاد السينما ينفرط عقدهم. غيبهم الموت وتبقي سيرتهم عطرة. ودورهم مشهود في خدمة فن السينما ورفعة الثقافة السينمائية. كل حسب جهده. وتبقي لي ذكريات معه هو البرجوازي الكبير واحد من النخبة المثقفة المصرية. ناقدها المقل ورقيبها في منصب شغله نجيب محفوظ.