اقتضت مشيئة الله أن تكون للسماء زينة كما اقتضت ان تكون للأرض زينتها وزينة السماء كواكبها وزينة الأرض علماؤها فالعالم علي كل حال سراج يجعله الله عز وجل في الثغر الذي يناسبه والذي خلقه الله مؤهلا له. ُفإذا ما أراد الله عز وجل بهذا الثغر ما أراد سحب منه هذا الضوء فترتفع هيبة هذا الثغر يصبح كلاماً مباحاً يعبره من يعبره ويستهين به من يستهين نقول هذا ونحن علي وعي كامل بأن الذي رحل عنا هذه الأيام كان نوراً في ثغره وكان جندياً علي حدوده ونوره يتعداه لغيره وحراسته. رحل عنا فضيلة الاستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان وهو عالم في مجاله ومجاهد بقلمه ولسانه قد علم انه في ثغر وأنه مسئول عن حمايته. والآن نتساءل ما الميزان الذي تقدر به هذا العالم الراحل وما القسطاس المستقيم الذي تقدر علي أساس منه جهوده وأعماله..؟ ان من الناس من يقدر الرجال علي أساس ما يرونه يعدهم من صفحات قد وقعوها وأوراق قد حبروها دون وعي بما في هذه الصفحات وما تحتويه هذه الأوراق وهذا ميزان قد يوافق عليه من يوافق ويخالف في نتائجه من يخالف.. وهناك موازين أخري يقاس إليها الرجال كل في مجال عمله والمقياس الجامع لكل هذه الموازين الحادي لأنواع القسطاس المستقيم هو هذا المقياس الجامع لعناصر الرجولة وما الرجولة أوراق تكتب ولا صفحات تحبر وإنما الرجولة مواقف.. يسجلها صاحبها فيأخذ بالاسباب ويدهش العقول الواعية التي تغرق مقادير الرجال. والاستاذ الدكتور الراحل نعرف عنه أنه كان صاحب مواقف فاذا نظرت إليه وهو ينصت لا تعرف الصوان الذي يتابعه وإذا نظرت إليه وهو يري لا تعرف الجهة التي ينظر إليها لأن ما يستمع إليه هو ضميره من الداخل وما ينظر إليه هو نداء روحه وهو نداء مستور لا يعرفه إلا صاحبه.. اجتمع الناس ذات يوم داخل جامعة الأزهر لمناقشة موضوع معين وكان هو من بين الجالسين ولم يكن من بين المتحدثين وكنا ننظر إلي العيون فنجدها متجهة كلها إلي بحر الظلمات وكنا ننظر إلي الاسماع فنجدها تغالب الموت وتخاطر بكل عزيز لتصل إلي مطلوب هش.. الدكتور الراحل كان يجلس كما نجلس ويستمع كما نستمع والذي تميز به عن جميع الحاضرين صفات الرجولة فيه فقد غلبت علي نزوات النفوس فوقف يقول اننا هنا فقط كي نوقع عن رب العالمين وكي نقول ما ينفعنا في الموقف يوم الدين وقال يومها كلمة حاسمة اخجلت من قال قبله ومسحت دمعة الحاضرين الذين ساءهم ما يسمعون انه رجل علي كل حال وليست الرجولة إلا مواقف.. يقول تعالي: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" ويقول تعالي: "في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والابصار" هكذا كان الراحل العظيم ولعله قرأ القرآن واستوقفه سورة حم "السجدة" فوجد ان القرآن يتحدث عن ثلاثة أنواع من البشر نوع انصرف عن ربه فأخبرنا ربنا انه ستشهد عليهم اعضاؤهم التي باشروا بها المعاصي.. ونوع انصتوا واستجشابوا لربهم علي قدر امكاناتهم فاصلحوا انفسهم ولم يصلحوا غيرهم ولا لوم عليهم فيما قصروا علي انفسهم. يقول تعالي: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي انفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من عفور رحيم ومن أحسن قولاً ممن دعا إلي الله وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين ولا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلي ذو حظ عظيم" هكذا رأي الشيخ هذا الصنف الثاني واعجب به فأصلح علي أساس من تكليفات ربه ذاته ولكنه حين واصل القراءة وجد نوعاً ثلاثاً متعلق فؤاده حيث قال : "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلي الله" تعلقت روحه بهذا الصنف فرأي انه لا يجوز للعالم الذي حمله الله أمانة التبليغ ووضعه في ثغر من ثغور الفكر ان ينكمش علي نفسه أو يتقوقع علي ذاته لأن عليه مهمتين: أولهما ان يصلح نفسه ويطهر ذاته والثانية ان يتعدي بصلاحه لغيره فيصلح المجتمع افراداً وجماعات ثم اطل علي الناس باستحياء العالم لا يريد منهم جزاء ولا شكورا وانما تطلعه إلي ربه وأكفه مبسوطة نحو عظمته وعفوه فكانت الكلمة تخرج من فمه تضيء والنصيحة تنطلق من قبله فتصلح من حوله.. رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته.