في عصرنا اللاهث هذا يجدر بنا أن نقف أمام قيمة كبيرة ورائعة جداً كدنا ننساها في صراعنا اليومي من أجل تحقيق مطالبنا المادية هذه القيمة هي الحب الذي أخذ في التضاؤل حتي كاد مفهومه ينحصر فقط في المسألة الحسية علي الرغم من أن الحب قيمة تمتد وتتسع لكي تشمل الكون كله بكل روعته وبهائه فالمفهوم الحقيقي للحب يبدأ بحب الله وهو مفهوم ليس جديداً علي الفكر العربي والإسلامي إذ نجده عند فلاسفة الصوفية. فالحب الإلهي في نظر أصحاب الخبرة الصوفية هو "محو الحب بصفاته و"إثبات المحبوب بذاته" وهو "خروج عن رؤية المحب إلي رؤية المحبوب" وهو أيضاً "الميل إلي الله بكليتك. ثم إيثارك له علي نفسك وروحك ومالك. ثم موافقتك له سراً وجهراً. ثم علمك بتقصيرك في حبه كل هذه التعريفات تدل علي المفهوم الصوفي للحب الإلهي الذي يؤكد أن الوجود الحقيقي للإنسان في هذا الكون موجود فقط في الله عز وجل. فلابد أن يتجرد عن كل شيء ما عدا الله لكي يحيا ويوجد ويتحرك في الله ولذلك فالعبادة عند الصوفي هي الاتحاد بالله لأنها علاقة حب متبادلة بين الرب والعبد. وقد تعودنا أن نقرأ في شهر رمضان بالذات قصيدة لشاعر صوفي يردد دعاء حاراً صادقاً لله سبحانه فقد كان يقول: هو ربي الذي أعبد.. هو ربي الذي أعشق.. هو ربي الذي من أجله أريد أن أتألم وأريد أن أتعذب.. وأريد أن انفطر وأتمزق وأموت.. إنه يتغلغل في عقلي تغلغل الحرارة المباركة في عظام شيخ محطم.. ويندمج في كياني كما يندمج العطر في الزهرة والثمرة في الشجرة والنور في الظلام.. فامنحني ياإلهي قوة الفكر كي أعيش فيك كالأسد.. وهبني يا إلهي روح التواضع كي اقترب منك في وداعة البنفسج.. واسكب علي يا إلهي ضوء القناعة كي أنفذ إليك في حكمة العباقرة.. واغدق علي يا إلهي فيض الصفاء كي يغتسل قلبي في مياهك الزاهرة.. وجللني يا إلهي بروائع جمالك كي أندمج فيك واسبح بحمدك دنيا وآخرة.. سنظل نشقي علي هذه الأرض وسنظل نضل الطريق.. ولن نستمتع بهذه الحياة إلا إذا ارتفعنا فوق نفوسنا لنفكر في خلق السماوات والأرض.. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك. فهذه التسابيح الصوفية لا تصدر إلا عن قلب عامر بالإيمان العميق الراسخ. قلب ذاق المباهج الروحية للحب الإلهي وأحس أن الحياة كلها لا تساوي شيئاً بدونها. قلب أدرك أن الإيمان بالله هو أسمي درجات المعرفة اليقينية. إيمان قائم علي الحب المتبادل وليس علي خوف الإنسان من الرهبة الإلهية. وعندما يغمر الحب الإلهي قلب الإنسان فإن كل المخاوف تتلاشي كما تنقشع الظلمة أمام النور. ولذلك فإنني لن أذكر الله إلا باعتباره صديقاً لي أحبه ولا أخشاه. لأن المنطق البسيط يقول إن وجود الحب يتنافي تماماً مع وجود الخوف إذا كيف أحب الله وأنا خائف منه...؟