محمد هلال كان للرسول صلى الله عليه وسلم ليله، الملىء بالصلاة والتهجد، حتى تتورم قدماه، حتى إن أم المؤمنين عائشة كانت تشفق عليه وتقول: ألم يغفر لك الله ماتقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكورا . وهنا يشير النبى إلى ملمح فلسفى كبير، فلم يقل “ نبياً أو رسولاً “ شكورا، وإنما قال “ عبداً “ وهنا يتحقق مقام العبودية والأُلوهية، الناسوت واللاهوت، فما ثم إلا عبد ورب، وفى الأثر إن النبى الكريم كان يتأمل صفحة السماء ليلاً ويقلب وجهه فيها، ويقول: “اللهم زدنى فيك تحيرا” . ولنا أن نتأمل ما اختص به المولى سبحانه نبيه الكريم دون كل الخلائق، بخطاب هو الفريد من نوعه، بين الخالق ومخلوقه المصطفى، وإن شئت هو خطاب الحب ودلال المحبوب، الذى ينادى حبيبه بالقاب موقوفة عليه، لا تقال لغيره ليتحقق الأنس واللذة الروحية، وذلك فى سورة “المُزَّمِّلِ”: يا أيها المزملُ* قم الليلَ إلا قليلا *نِصفهُ أوانقص منه قليلاً*أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً “ وتلك حالة لايطيقها بشر عادى. والمزمل هو الملتف فى الثياب المتأهب للصلاة، كما فى تفسير الإمام الطبرى وغيره من المفسرين، وفى لطائف الصوفية معنى جميل يقول: المتزمل الملتف بالنبوة، المتدثر بالرسالة وهو معنى إشراقى، ليكمل الدلال والجمال من الرب المحبوب والطاعة الجميلة من العبد المحب وماثم إلا عبد ورب، وليس هناك أعظم ولا أجمل ولا أجل ولا أروع، من أن يناديك رب العزة بشخصك، للقائه ويكون الليل بينك وبينه سبحانه ، بينما الخلائق فى ليلهم نائمون أو لاهون، وذلك سر إيجاد الوجود . يقول رب العزة فى حديث قدسى: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف . أى أننا عرفنا الله بالله، وقد وعاها الصديق أبو بكر رضى الله عنه فقال:” عرفت ربى بربى “، ومن أدب الصوفية أن يقولوا عن شيوخهم: “العارف بالله “، أى أن الله سبحانه عَرَّفه به، وبغير الله ماعرفه مخلوق . ويقول النيسابورى فى أسباب نزول الآية التاسعة من سورة الزمر:” أَمَّن هُو قانتٌ أَنآء الليلِ ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرة ويرجو رحمة رَبِّهِ”، إنها نزلت فى أبى بكر، وقيل فى عثمان بن عفان، وقيل عمار بن ياسر، وكانوا رضى الله عنهم من أهل الليل . وها هو أمير المؤمنين عمربن الخطاب رضى الله عنه كان ليله عساً فى شوارع المدينة، ليقف على مشاكل الرعية وحفظ الأمن بينهم، وما أروعها من عبادة، أن تحفظ أرواح الخلائق، لينعموا بحياة آمنه هانئة، حتى لو كان مقابل ذلك تعبك وإرهاقك الشديد، ولكنه عمر الذى أتعب الحكام بعده، حتى وقتنا هذا . فكلما ذكرنا العدل والعدالة وتكوين مؤسسات الدولة، ووضع أطر التعاملات الحياتية بين الناس مسلمين وغيرهم يعيشون بينهم ذكرنا عمر رضى الله عنه ، ومن المحزن أن يُقتل هذا الجبل الأشم فى نهاية الليل وبزوغ الفجر، وهو فى محراب الصلاة، وكانت إضاءة المساجد بدائية بسيطة يبدو فيها الناس مثل أشباح، فوقف خلفه فى الصلاة أبو لؤلؤة المجوسى، وطعنه بجنجر صنعه لهذا الغرض اللعين. ومن حوادث الليل الدامية، أن قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه ليلاً، وهو فى محراب بيته يقرأ القرآن، حين وثب عليه القتلة بعد أن تسوروا سطح داره، وقد عطر دمه الطيب المصحف الشريف، وما زالت آثار دمه على “ مصحف عثمان” فى غرفة الآثار النبوية بالمسجد الحسينى بالقاهرة المحروسة . وها هو الليل يكمل المشهد الدامى بمقتل أمير المؤمنين على بن أبى طالب فى عام 40هجرية 660 ميلادية، حين تربص له ابن ملجم المرادى، وكان من الخوارج . يصف أبو حنيفة الدّينورى صاحب كتاب الأخبار الطوال، المشهد قائلاً: فلما كانت تلك الليلة تقلد ابن ملجم سيفه، وكان قد نقعه فى السم، وقعد مغلساً ظلمة آخر الليل التى قبيل الفجر ينتظر أن يمربه علىُّ رضى الله عنه مقبلاً إلى المسجد، فبينما هو كذلك إذ أقبل الإمام علىّ، وهو ينادى:” الصلاة أيها الناس” فقام إليه ابن ملجم، فضربه بالسيف على رأسه . وقد أقسم ربنا فى سورة التكوير وهى تحوى الكثير من علامات الساعة بالليل:” والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس “ وقال مفسرون، إن معنى عسعس أى أدبر، ليأتى النهار، وقال البعض بعكس ذلك، أى انتشر ونشر خيمته على الكون، وجاء من هذا المعنى، العس ليلاً كما كان يفعل أمير المؤمنين عمر . وقد جعل الله الليل لباساً والنهار معاشاً، واللباس هو السكينة والهدوء والتفكر والتدبر، والعشق بكل ألوانه للذات الإلهية وللبشر والوطن انظر إلى قول الرسول الكريم:”عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله “، والمبيت لا يكون إلا ليلاً . ومن صفات الليل أيضاً أنه “كافر” أى ساتر يستر كل شىء بظلامه، الفاجر فى فجوره، والمجاهد فى جهاده، ألا ترى أن عمليات حرب الاستنزاف بين الجيش المصرى والعدو الصهيونى فى عامى 67 1968 كانت كلها بالليل؟ وكذا السارق فى سرقته، والعابد فى مواجيده وأسراره مع خالقه، يقول عمر بن الفارض سلطان العاشقين، يشكو طول الليل وافتقاد الحبيب، بل يحسد الليل أن قمره وهو بدر مكتمل بالبهاء والضياء حاضر معه، ويتمنى أن يكون بدره، معشوقه حاضر: ياليل مَاَلَكَ آخرُ :: يُرجى ولا للشوق آخر ياليل طُل ياشوقُ دم:: إنِّى على الحالين صابر لى فيك أجر مجاهد:: إن صح أن الليل كافر يَهنِيك بدرُك حاضر:: يا ليت بَدْرى كان حاضر وتقول العامة: “الليل ستورى”، ولأهل الليل فيه شئون، فعظيم مناجاة أولياء الله ورجالات الصوفية وإلهاماتهم وشطحاتهم وخروجهم عن مألوف الخلائق وخرق العوائد، يأتى ليلاً. والشعراء ليلهم استدعاء لمعانى الشعر وفيوضاته، واستقبال شياطينه كما قالت العرب قديماً إن للعبقرية شياطين ملهمة فى مكان يسمى وادى عبقر، فهم فى استقبال دائم لهذه الإلهامات، وكذا كل صاحب فن وإبداع مثل الرسامين والشعراء وعموم المبدعين وغيرهم. بل إن هناك سلاحاً فى الجيوش لا ينفذ مهامه إلا ليلاً برغم عملهم فى ماء البحار والمحيطات، وهم “الضفادع البشرية”. ومن الطرائف أن هناك طيورا لا تظهر إلا ليلاً، ذكرها الإمام السيوطى فى كتابه “الكنز المدفون والفلك المشحون” يقول: طيور الليل الذين لا يخرجون فى النهار أصلاً، أنواع البوم والهامة، والصدى وهو ذَكَر الهامة، والضوع وهو ذكر البومة، والخفاش وغراب الليل. وعلى الشاطئ الآخر، ترى قطاع الطرق وتجار المخدرات واللصوص، وأصحاب تلك الآفات وغيرها من الرذائل، جُلَّ تخطيطهم وتنفيذ أعمالهم ليلاً . والعشاق لهم ليل خاص أيضاً، فهم فى معزل عن الناس لا صوت لهم إلا الهمس ولطيف الكلام، يطول فى ليلهم صمت اللسان وتغلب لغة الأحاسيس، ولنسمع للشاعر الكبير أحمد شوقى: وتعطلت لغة الكلام وخاطبت:: عينىَّ فى لغة الهوى عيناها ومن النادر الشاذ، بل إن شئت قل المستحيل، أن يخلو ديوان شاعر من ذكر الليل، بوجه من الوجوه، خصوصا علاقته بالمحبوب. يقول الفقيه الإسلامى الشهير ابن حزم الأندلسى، فى كتابه الأشهر” طوق الحمامة”: “لولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء، الذى لا كدر منه، والفرج الذى لا شائبة فيه، ولا حزن معه، وكمال الأمانى ومنتهى الأراجى” . ومنهم السكير الذى ينشد النشوة ليفرح، فهذا صاحب لهو، والسكير الذى يريد السُكْر كى لايفيق لخطب داهم ووجع أَلم به، فهذا صاحب حزن . والسكير الذى تعود الشراب فذا صاحب سُكر، أو كما يقول العامة “ صاحب كباية” . ومن أصحاب الليل، المريض الذى تمر عليه اللحظة دهراً، ومن الأعاجيب اشتداد الوجع ليلاً على صاحبه، وهو كالمنتظر يطول ليله، يقول إمرؤ القيس، أول شاعر عربى:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل. وكذا المسافر والذى يرجو سرعة الوصول، ففى الليل وحشة لغير أهله الدائمين فيه العاشقين له . ومن أهل الليل المميزين، أهل الغناء والطرب والرقص والموسيقى، سواء كان غناء اللهو والمتعة الحسية، أم غناء الطاعة ورقص الدراويش والذوبان الروحى فى عشق الذات الإلهية . ألا ترى أهل الفنون من الغناء والشجى والشجن، والمديح الإلهى والنبوى، والعشق الأنثوى، يبدأون إنشادهم بمناجاة الليل، يهتفون باسمه “يا ليل يا عين”؟ والعين جوهرة الإنسان، تغنيه عن العوز لغيره، والتمتع بالحياة، وفى الحديث الشريف: من فقد حبيبتاه فصَبر، فليس له جزاء إلا الجنة. ومن طريف ما ذكره ابن المعتز فى كتاب “طبقات الشعراء”، قال رجل لبشار: “ما سلبَ الله من عبدِ كريمتَيه إلا عوضَه عنهما”، فما الذى عوضَك عن عينيك؟ فقال: عدم النظرِ إلى بغيضِ مثِلك. ومن طريف أشعار ابن الرومى، فى حبه لليل شهر رمضان: فليتَ الليلَ فيه كان شَهرَا:: ومر نهارُه مرَّ السحاب فلا أهلاً بمانع كلِّ خيرِ:: وأهلاً بالطعام وبالشرابِ أما خير الكلام فى مقام ليل رمضان ما أخرجه البيهقى فى كتاب “شُعب الإيمان”، كان النبى الكريم يُبشرُ به أصحابه:” قد جاءكم الشهرُ الكريمُ الذى فيه الليلة التى هى خيرٌ من ألف شهر، وللهِ فى كل ليلةٍ من ليالى شهر رمضان ستمائة ألفِ عتيقٍ من النار، وله فى آخر ليلةٍ من لياليه مثل ما أعتق فى جميعِ الشهر “ .