يبدو أنه كتب علي الفقراء والبسطاء والطبقة الوسطي في مصر أن يدفعوا دائماً ضريبة العيش دونا عن الفئة الأخري القادرة التي دائماً ما تجد لها مخرجاً من شظف العيش وصعوبة الحياة. هذه الجموع العريضة من عموم المصريين كانت ومازالت هي حائط الصد ضد الأطماع الخارجية. وضد المؤامرات. وضد الإرهاب.. خاضت الحروب الكثيرة وتحملت أعباءها منذ شعار إزالة آثار العدوان بعد نكسة 67 حتي حققت الانتصار العظيم في اكتوبر 73 ووعدها الرئيس الراحل أنور السادات بالرخاء بقدوم عام 1980. ولكن مع خطوات الانفتاح ومنذ ذلك الحين انفتح الباب علي مصراعيه للتجار والسماسرة ووكلاء الاستيراد من الخارج وتحطمت تجارب الانتاج والتصنيع والاكتفاء الذاتي الذي كان يمكن أن يحقق رخاء حقيقياً لهذا الشعب كما حدث مع دول أخري في العالم اتسمت تجربتنا الوطنية في عهد محمد علي وعبدالناصر وطبقوها بأمانة وعزم وحسم. فصاروا نموراً اقتصادية علي خريطة العالم.. بينما تعثرت كل محاولات الإصلاح الوطنية المصرية.. تحت وطأة ونفوذ أصحاب المصالح وسوء الإدارة وفساد الذمم وجشع التجار الذين لا يخجلون دائماً عن إخراج أسوأ ما عندهم من ابتزاز واستغلال رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد. ورغم مناشدات الرئيس المتكررة لهم بأن يكونوا عونا لبلدهم وللمصريين.. ولكن لا حياة لمن تنادي. وكانت النتيجة المؤسفة التي وصلت ذروتها الآن بالتربح والثراء علي جثة هذا الوطن وهذا الشعب الذي يصرخ من المغالاة غير المعقولة في تكلفة المعيشة والارتفاع غير المسبوق في الأسعار الذي صار يشكو منه كل الناس حتي الميسورون. هذه الكلفة البالغة نشهدها مع بدء العام الدراسي الجديد بارتفاع قيمة مصاريف المدارس والاستغلال برفع أسعار الزي المدرسي والأدوات المدرسية والكتب وحتي طعام التلاميذ الذي يذهبون به إلي مدارسهم وأبسطه رغيف الخبز "الفينو" الذي يحتاج إلي مشرط جراح لكي يفتحه إذا ما كان لأولياء الأمور البؤساء القدرة علي توفير بعض الجبن أو مصنعات اللحوم الخطيرة علي الصحة. * * * وهكذا اعتاد المصريون من زمن لآخر أن يودعوا احتياجات كثيرة في حياتهم المعيشية يعتبرونها رغم ضروريتها من السلع الكمالية فكما ودع الموظف المصري من قبل الترزي الذي كان يعد له بدلة في الشتاء وأخري في الصيف وودع الناس محال الملابس الراقية وذهبوا إلي أسواق الملابس المستعملة في الشوارع ووكالة البلح. وودعوا البقال القريب من المنزل الذي كان يوفر لهم بضاعة جيدة وصاروا يتعاملون مع المولات التجارية الضخمة التي كثيراً ما تبيع لهم سلعاً تظنوها رخيصة رغم أنهم يذهبون لأسواق أوروبا يستوردون سلعا تكاد تقترب نهاية صلاحيتها وودعوا المكوجي والجزار والفكهاني وعرفوا ترابيزة المكوي المنزلية واللحوم المستوردة وباعة الخضر والفاكهة الذين يفترشون الشوارع يبيعون الفاكهة المعطوبة. ولا نتحدث عن وداع تلك الشريحة الاجتماعية من قبل للمصايف وفسخة نهاية الأسبوع والمسرح والسينما ليس للفن الهابط الذي نشكو منه ولكن لغلاء هذه الوسائل الترفيهية علي قدرة الناس. * * * ثم ماذا تبقي بعد ذلك لكي يودعه الناس سوي طعام الفقراء والبسطاء من الفول والطعمية والكشري والبقوليات والأطعمة الشعبية الرخيصة التي اعتادها من نطلق عليهم محدودي الدخل.. وأين الرقابة علي الأسواق والطعام الذي يعتبر أمناً قومياً وقد شاهدت بعيني أحد محال سلاسل الفول والطعمية يبيع الطعمية بجنيه وربع الجنيه وآخرين يبيعون طبق الكشري بعشرة جنيهات حتي أطعمة الكبدة والسجق التي تجلب الأمراض زاد سعرها. ولمن لا يصدق من السادة المسئولين الذين يتشدقون دائماً بالتصريحات والوعود الوردية بالسيطرة علي الأسعار ورقابة الأسواق ومراعاة محدودي الدخل أن يسألوا عن المغالاة في أسعار أطعمة البسطاء من البقوليات من فول وعدس وفاصوليا وغيرها وقد تجاوز ثمن الكيلو منها عشرون جنيها.. وأسعار الخضراوات والفاكهة التي يسيطر عليها أباطرة التجار ومنها خضراوات طعام الغلابة كالبذنجان والبطاطس أو الفاكهة "القرافة" كما كنا يسمها في الماضي البلح والجوافة التي وصل سعرها عشرة جنيهات! * * * قد يلاحظ البعض أن حديث الساعة هو الفوضي التي تجتاح الأسواق والحكومة وأجهزتها مكتوفة الأيدي وما يسمي بجهاز حماية المستهلك هو سبوبة للقائمين عليه.. حتي كبار الكتاب الذين كانوا يطوفون بالقراء بتناولهم القضايا القومية وقضايا العالم المتنوعة شغلهم همومهم الاقتصادية والمعيشية وغلبت علي مغالاتهم هذه المشاغل الحياتية. وماذا بعد؟! الله أعلم.. اللهم الطف بالمصريين في الأسواق..!!