تحديد المصطلحات وبيان مفهومها بمنتهي الدقة أمر في غاية الأهمية. إذ ينبغي أن تكون التعريفات جامعة مانعة كاشفة دفعاً للوهم والالتباس. فتحت مسمي الالتزام والأحوط والاحتياط فتحت أبواب التشدد التي ساقت وجرفت الكثيرين في طريق التطرف. حتي ظن الجاهلون أن التحوط في التدين يقتضي الأخذ بالأشد. وأن من يتشدد أكثر هو الأكثر تديناً وخوفاً من الله "عزوجل". مع أن الإسراع في التحريم دون تيقن ودليل قاطع أمر يحسنه الجاهلون والمتطرفون. أما الفقه الحقيقي فهو رخصة من ثقة. وهو التيسير بدليل. ولم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين إن الفقه هو التشدد. ذلك لأن الله "عزوجل" يقول: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" ويقول سبحانه: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ويقول نبينا "صلي الله عليه وسلم": "إن الدين يسر. ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" "رواه البخاري". ويقول "صلي الله عليه وسلم": يسروا ولا تعسروا. وبشروا ولا تنفروا" و"ما خير النبي "صلي الله عليه وسلم" بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه". وإذا كان الإسلام كله قائماً علي التيسير ورفع الحرج فإن هذا التيسير في الحج أولي وألزم. فما يسر نبينا "صلي الله عليه وسلم" في شيء أكثر من تيسيره علي حجاج بيت الله "عزوجل" في قولته المشهورة: "افعل ولا حرج". غير أن التيسير الذي نسعي إليه هو التيسير المنضبط بضوابط الشرع. المقرون بمدي القدرة والاستطاعة. إذ ينبغي أن يحرص المستطيع علي أداء العبادة علي وجهها الأكمل والأفضل الذي يحقق لصاحبه أعلي درجات الفضل والثواب. وبما لا يصل إلي حد التهاون الذي يفرغ العبادة من مضامينها التعبدية الأصيلة السامية. وبحيث لا تنحصر همة الإنسان في تتبع كل الرخص في كل الأركان والواجبات وعلي كل المذاهب. إنما يأخذ من الرخص ما يقتضيه واجب الوقت وظروف أداء الشعيرة وموجبات التيسير. وفي هذا الإطار يأتي كتاب التيسير للحج الذي أصدره المجلس الأعلي للشئون الإسلامية من تأليف نخبة من خيرة العلماء المتخصصين. ومن أهم القضايا التي تناولها الكتاب نذكر ما يأتي: 1 إن الفهم الصحيح لأولويات ما طلبه الشارع من العباد يوجب ألا تكون العبادة سبباًَ لقتل النفس أو الإلقاء بها في المهالك. لأن الحق في حفظها أرجح وأولي عند الله "عزوجل" من أداء العبادة. لأن أداء العبادة حقه سبحانه. وحق الله مبني علي الصفح والغفران. ولأن التكليف إذا ضاق عن وسع الإنسان برئت ذمته منه. لقول الله تعالي: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته علي الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فأنصرنا علي القوم الكافرين" وقوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" فمن رحمة الله "عزوجل" أنه لا يكلف أحداً من خلقه بما لا يطاق ولا يحتمل. 2 إن التخفيف عن المرضي والمسنين وأصحاب الأعذار لا يقتصر عليهم وحدهم. بل يتعداهم إلي من يرافقونهم من الأهل. أو يكونون معهم في الأفواج فيستفيدون من الأحكام التي تقرر التيسير لهم. ويستفيدون بها مثلهم في الحل والترحال وأداء المناسك. لأن الضعيف أمير الركب. وحكم الأمير يسري علي المأمور معه. وهو المصاحب له أو القائم علي أمره. وذلك معلوم من أحكام الدين بالفطرة الدينية والفهم السديد. إذ بدون ذلك يهلك أصحاب الأعذار ويضيع مقصود الشارع من التخفيف عنهم. 3 يجوز الإحرام من جدة لمن قدم للحج من بلده غير محرم. لأنها واقعة ضمن بعض مواقيت الحج للقادمين من جهة موقعها للأماكن المقدسة. ومن ثم يصبح القادمون إليها كأهلها يجوز لهم أن يحرموا بالحج أو العمرة منها. ولا حرج علي من فعل ذلك ولا يلزمه دم. بناء علي أن المسألة خلافية بين الفقهاء. ومن المعلوم أن العمل بأي من الرأيين المختلفين في المسألة التي تحتمله جائز وغير منكر إذ لا يكون الإنكار إلا في الأمر المجمع علي حكمه. 4 تجوز الإنابة في ذبح الهدي والأضحية بعذر أو بغير عذر. ويجزيء عن المنيب في ذلك دفع "صك" الهدي أو الأضحية في الأماكن المختصة ببيعه بعد التأكد من صفة القائمين عليها. كما تجوز الإنابة في الرمي عن الضعفاء والعجزة والمسنين وسائر أصحاب الأعذار. وكذلك تجوز الإنابة في أصل النسك الحج كاملاً لمن فقد الاستطاعة البدنية وامتلك الاستطاعة المالية بشرط أن يكون من يحج له قد سبق له أداء فريضة الحج عن نفسه. وفي كل ذلك ما يؤكد يسر شريعتنا السمحة الغراء وبعدها عن كل ألوان التشدد والتكلف والغلو.