سأبدأ بالإشارة إلي أن الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي لا تعطي سلطات إضافية للدولة التي تتولي رئاسته من بين الدول الأعضاء فيه. بالتالي لا يجب رفع سقف التوقعات المنتظرة من مصر خلال رئاستها مجلس الأمن الدولي لشهر مايو الجاري.. خاصة أن هذه الرئاسة تأتي في ظل نظام دولي "بات مختلا" كما جاء في كلمة مصر أمام القمة الإسلامية التي عقدت بإسطنبول 14 أبريل الماضي.. - لذلك فإن مصر أمام خيارين: - إما أن تدير رئاستها لاجتماعات مجلس الأمن الدولي خلال هذا الشهر بطريقة بروتوكولية تقليدية لا تقدم ولا تؤخر.. - أو أن تنتهز فرصة رئاستها لمجلس الأمن لكي تبدأ معركة إصلاح الخلل في النظام الدولي. وهي معركة طويلة وصعبة ومعقدة ومتشعبة وباهظة الثمن.. أشبه باللعب مع الكبار.. إذا كسبت اللعبة فالمكسب كبير.. وإذا خسرتها فالخسارة أيضا كبيرة.. !! *** أحسب أن مصر يجب أن تتجه الي الخيار الثاني.. للأسباب التالية: 1- أن مكانة مصر علي الساحة الدولية. ومسئوليتها كدولة رائدة لمجموعة الدول العربية والأفريقية والإسلامية تحتم عليها أن تبدأ المعركة.. لأن الخلل القائم في النظام الدولي يعود بالضرر الأكبر علي هذه الدول.. 2- أن الفرصة مواتية.. فجلسة مجلس الأمن التي ستعقد بعد غد ستكون جلسة مفتوحة لجميع مندوبي الدول الأعضاء بالأممالمتحدة.. بالتالي يمكن حشد رأي عام دولي بقيادة مصر - بحكم رئاستها لمجلس الأمن - في اتجاه التصدي لهيمنة الدول الكبري علي القرار الدولي.. ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلي القضاء علي هذه الهيمنة. لكن يكفي أن يقطع المجتمع الدولي خطوة علي هذا الطريق.. وأن تكون الخطوة بقيادة مصر.. 3- لا يجب أن ننسي موقف السعودية عندما رفضت قبول عضوية مجلس الأمن عام 2013. وأصدرت بيانا عللت فيه هذا الرفض بالقول "إن المملكة تري أن أسلوب وآليات العمل وازدواجية المعايير الحالية في مجلس الأمن تحول دون قيام المجلس بأداء واجباته وتحمل مسئولياته تجاه حفظ الأمن والسلم العالميين".. أشار البيان إلي بقاء القضية الفلسطينية دون حل. والي فشل المجلس في إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. وعجزه عن إخضاع البرامج النووية لجميع الدول للمراقبة دون استثناء.. بالطبع جاءت ردود الفعل علي القرار السعودي متفاوته. فبينما انتقدت روسيا الخطوة السعودية. وقالت في بيان لها إن هذا الرفض "يعني تخلي السعودية عن العمل الجماعي في إطار المجلس من أجل الحفاظ علي السلام والأمن في العالم"... فإن فرنسا أعلنت أنها تشاطر السعودية إحباطها وقالت "إن لديها مقترحًا لتعديل حق الفيتو".. أما الولاياتالمتحدة فقد أعلنت علي لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن القرار السعودي "شأن خاص"..!! 4- بالتالي فإن ترشح مصر لعضوية مجلس الأمن الدولي. وحصولها علي ثقة معظم الدول الأعضاء في الأممالمتحدة. ثم ممارستها لمهام العضوية.. كل ذلك يفرض عليها اتخاذ موقف أكثر تقدما من الموقف السعودي باعتبار مصر هي قائدة العالم العربي.. هذا الموقف يتمثل في اقتحام ميدان المعركة وليس الهروب منه. والسعي لإحراز تقدم ولو خطوة واحدة علي الطريق الذي انسحبت السعودية من السير فيه.. طريق إصلاح النظام الدولي. كضرورة للحفاظ علي السلم والأمن العالميين.. 5- الفرصة المتاحة بعد غد أمام مصر للقيام بهذا الدور تكاد تكون فرصة تاريخية. ليس فقط لأن جلسة مجلس الأمن ستكون مفتوحة لمندوبي جميع الدول الأعضاء في الأممالمتحدة كما سبق أن أشرت.. لكن أيضا لأن موضوع الجلسة "سبل مكافحة الفكر المتطرف كأساس لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب".. يمكن أن يكون بمثابة "الفتيل" الذي يشعل المعركة ضد هيمنة الدول الكبري علي النظام الدولي.. - كيف ذلك..؟ *** - الإجابة هي أن "الفكر المتطرف".. الذي يجتمع العالم بعد غد برئاسة مصر في مجلس الأمن لبحث سبل مكافحته.. هو "النبتة" الطبيعية لبذرة اسمها "سياسة المعايير المزدوجة" في التعامل مع قضايا العالم الإسلامي .. سياسة تنتهجها دائما الدول الكبري. حتي أصبحت هي السمة الغالبة للنظام الدولي.. وهي تقوم علي شقين.. الأول: استخدام حق الفيتو لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن لصالح أي من الدول الإسلامية.. الثاني: الحول دون تنفيذ أي قرار سابق من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة يحقق مصالح الدول الإسلامية..!! - الأمثلة علي ذلك كثيرة.. أسوق منها 3 حالات: 1- الحالة الفلسطينية.. حيث صدرت عشرات القرارات من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. تطالب اسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها بالقوة.. كل هذه القرارات بقيت مجرد حبر علي ورق.. لتجسد حالة استخفاف شديدة الوضوح من جانب اسرائيل بالأممالمتحدة. كذلك حالة عدم اكتراث شديدة الوضوح من جانب الدول الكبري دائمة العضوية في مجلس الأمن بحقوق الشعب الفلسطيني العربي المسلم.. 2- حالة إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه بين باكستانوالهند. وتقطنه أغلبية مسلمة تشكل 85% من سكانه.. لقد صدرت 3 قرارات من مجلس الأمن الدولي.. هي القرارات أرقام 47 لسنة 1948. و91 لسنة 1951. و122 لسنة 1957. بالاضافة إلي عدد آخر من قرارات الجمعية العامة. ولجنة الأممالمتحدة. التي شكلت لتسوية النزاع بين الهندوباكستان حول هذا الإقليم.. كلها دعت إلي ضرورة إجراء إستفتاء عام بين سكان إقليم جامو وكشمير تحت إشراف الأممالمتحدة. لكي يقرر فيه السكان مصيرهم.. هل ينضمون إلي الهند ؟.. أم إلي باكستان ؟.. أم يعيشون في دولة مستقلة ؟.. رغم ذلك لم يجر هذا الاستفتاء حتي الآن.. مع ملاحظة أن مشكلة جامو وكشمير هي أقدم مشكلة علي جدول أعمال الأممالمتحدة.. أقدم من مشكلة فلسطين..! 3- حالة إقليم ناجورنوكاراباخ التابع لجمهورية أذربيجان ذات الأغلبية المسلمة. الذي تحتله أرمينيا بالقوة العسكرية منذ عام 1992. بالاضافة إلي 6 أقاليم أذربيجانية أخري تشكل في مجموعها مع إقليم ناجورنوكاراباخ 20% من مساحة أذربيجان.. لقد أصدر مجلس الأمن 4 قرارات دولية. كلها تطالب أرمينيا بالانسحاب الفوري من هذه الأقاليم دون قيد أو شرط .. هذه القرارات تحمل أرقام: القرار 822 صدر في 30 أبريل 1993 - القرار 853 صدر في 29 يوليو 1993 - القرار 874 صدر في 14 أكتوبر 1993 - القرار 884 صدر في 12 نوفمبر 1993.. رغم ذلك مازالت أرمينيا تحتل هذه الأقاليم.. وبدلا من أن تطالبها الدول الكبري بتنفيذ قرارات مجلس الأمن والانسحاب من الأراضي الأذربيجانية التي احتلتها بالقوة العسكرية.. فإن العالم الغربي كله منشغل بالحديث عن مذابح تركيا للأرمن أثناء الحرب العالمية الأولي عام 1915..!! علي الرغم من أن المذابح التي ارتكبتها أرمينيا ضد المسلمين في القري الأذربيجانية التي تقع في الأقاليم السبعة التي احتلتها.. خاصة مذبحة قرية"خوجالي" في فبراير 1992.. هي من أبشع المذابح التي ارتكبت علي مدي التاريخ الإنساني كله.. وتنطبق عليها كل شروط جرائم الحرب والإبادة الجماعية.. فأين إذن الضمير الإنساني ؟.. - لقد أتيحت لي فرصة الحوار مع أكثر من مسئول أرميني علي أعلي مستوي التقيت بهم في عام 2006.. وزراء ورئيس الوزراء.. وعندما سألتهم: لماذا لا تنفذون قرارات مجلس الأمن الدولي التي تطالبكم بالانسحاب من الأراضي الأذربيجانية ؟.. سمعت منهم أغرب إجابة.. قالوا لي: عندما تنفذ اسرائيل قرارات مجلس الأمن وتنسحب من الأراضي العربية التي تحتلها.. سوف نفعل نفس الشيء مع أذربيجان.. - لعل هذه الإجابة تلخص إلي أي مدي وصل الاستخفاف من كل من أرمينيا واسرائيل بقرارات الأممالمتحدة..! - في المقابل نري العكس تماما عندما يتعلق الأمر بغير المسلمين.. سأسوق مثالين علي ذلك لضيق المساحة المتبقية من المقال.. المثال الأول من إندونيسيا. حيث تم فصل جزيرة تيمور الشرقية عنها في أقل من أسبوعين. لمجرد أن هذه الجزيرة يقطنها مسيحيون.. المثال الثاني هو عملية فصل جنوب السودان عن شماله التي تمت برعاية وتمويل بالمليارات من الدول الغربيةوالولاياتالمتحدةالأمريكية.. لنفس السبب!.. *** هذه الازدواجية في المعايير عند التعامل مع قضايا الشعوب الإسلامية.. هي أكبر حافز للشباب من أبناء هذه الشعوب لاعتناق الأفكار المتطرفة وحمل السلاح من أجل القصاص واستعادة الحقوق المسلوبة.. يجب الإشارة هنا إلي أن كثير من هؤلاء الشباب ينتمون ؤلي عائلات ثرية تعيش في الدول النفطية أو الدول الغربية.. أي أنهم ليسوا مرتزقة ولا يحملون السلاح من أجل الحصول علي المال.. لكنهم ضحية الإحساس بالتمييز ضد المسلمين.. بعد ذلك تلتقطتهم بعض أجهزة المخابرات العالمية وتوظفهم لتنفيذ أجندتها الخاصة.. فتدفع بهم إلي خوض حروب بالوكالة.. قتل وحرق وتشريد.. يمارسون هذا الإرهاب ظنا منهم أنهم يجاهدون في سبيل الله.. وأن ما يفعلونه هو أقصر الطرق إلي الجنة والحور العين.. - ولأنهم مسلمون يصبح من السهل إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام..!! - مازال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي..