من فوق منصة القضاء وصف المستشار أسامة الرشيدي قاضي وزير الزراعة المرتشي المادة "107" من قانون العقوبات المصري. التي تعفي الراشي والوسيط من العقاب. ب "الرخصة لإفساد الموظفين العموميين". وكان القاضي قد أصدر حكما بالسجن المشدد عشر سنوات لكل من وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال ومستشاره محيي قدح مع عزلهما من وظيفتيهما. وتغريم هلال مليون جنيه. وتغريم قدح 500 ألف جنيه. مع إعفاء رجل الأعمال أيمن الجميل. ووسيط الرشاوي المحترف محمد فودة من الاتهامات المنسوبة إليهما طبقا للمادة 107 من قانون العقوبات. قال المستشار أسامة الرشيدي: إن المحكمة وإن كانت تقدر دوافع المشروع إلي منح كل من الراشي والوسيط الإعفاء المقرر بهذه المادة للمساعدة في إقامة الدليل علي الموظف العام الجاني في جريمة الرشوة التي يتسم ارتكابها بسرية وكتمان بالغين. إلا أنه وبعد أن ظهر جليا في السنوات الأخيرة أن هذا الإعفاء قد أصبح بمثابة رخصة ووقاية لطبقة جديدة من المجرمين ممن امتهنوا إفساد الموظفين العموميين كبيرهم وصغيرهم فاحترفوا جريمة الوساطة في الرشوة وهم علي يقين أن طوق النجاة لهم مهما ارتكبوا من آثام هو الاحتماء بالمادة 107 مكرر من قانون العقوبات. والاعتراف بالجرم وهو بالنسبة لهم ليس فضيلة ولا إقرارا بذنب أو تحقيقا لعدالة. فليس أهون عليهم من التضحية بشركائهم في الجريمة والاعتراف بها طلبا للنجاة. الأمر الذي تطالب معه المحكمة المشرع بإعادة النظر في المادة سالفة البيان. وإحاطة هذه الميزة التي منحها للراشي والوسيط في حالة الاعتراف بالجريمة بمزيد من الضوابط والقيود التي تجعل هؤلاء بمأمن تماما من العقاب بمحض إرادتهم وهو ما يخلق طبقة من المرتزقة الذين يحترفون إفساد الموظفين العموميين لتحقيق مآرب شخصية ومكاسب مادية. *** إدانة قانون العقوبات المصري بسبب تشجيعه للفساد لم تقتصر علي القاضي المحترم. بل خرج علينا العديد من رجال القضاء عبر عدد من الفضائيات بعد النطق بالحكم للتعبير عن استيائهم من وجود نص قانوني يعفي السبب الرئيسي في جريمة الرشوة وهما "الراشي والوسيط" باعتبارهما سبب القصد الجنائي والاقتصار علي معاقبة المرتشي باعتباره أس الفساد. مع أنه قد يكون ضحية إنسان منحرف تعود علي سرقة المال العام عن طريق نصب شراكه وإغراء مسئول ضعيف النفس وساعده علي ذلك وسيط محترف تخصص في هذا النوع من الجرائم ولم يعد يخجل من مواجهة الناس بعد خروجه من السجن وقيامه بهذا الدور الحقير. *** مصيبتنا في مصر أننا مازلنا لا نعرف كيف نواجه الفساد المالي الذي استشري في حياتنا.. مازلنا نتخبط في قرارات وتشريعات تحض علي الفساد وتشجع الفاسدين وتحميهم. ونفتخر بها ونزعم بأن لدينا أجهزة رقابية لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتعلم بها. ولدينا خبراء أمن يأتون بالعفاريت التي تمارس الفساد في كل مكان.. ولدينا تشريعات حاسمة نعاقب بها الفاسدين.. ثم تكون النتيجة انتشار الفساد المالي والإداري والأخلاقي في كل مكان وتعدد وتنوع الفاسدين وعدم وجود أي ردع لهم. إذن النتيجة المنطقية والحتمية لذلك شيوع الفساد في كل مكان واستنساخ الفاسدين من رجال الأعمال وسماسرة الرشوة هنا وهناك وسخرية المجتمع كله من القوانين والتشريعات القاصرة. سمسار الرشوة ووسيط الفساد الذي لم تعاقبه المحكمة بسبب المادة 107 من قانون العقوبات مارس الدور نفسه بكل تفاصيله الرخيصة والخسيسة مع محافظ الجيزة الأسبق المستشار ماهر الجندي - رحمه الله وعفا عنه - ودخل هذا السمسار السجن وخرج يعترف بجريمته ويطلب العفو من المجتمع من خلال حوارات مع فضائيات.. ثم عاد بعد 10 سنوات ليمارس الدور نفسه مع مسئول آخر ليخرج من القضية التي أصابت المجتمع المصري بصدمة بالغة مثل الشعرة من العجين. فهل بعد ذلك يمكن أن يدعي أحد أن لدينا قوانين وتشريعات تواجه الفساد؟ كيف نعفي رجل أعمال "فاسدا" وفقا لوصف المحكمة من عقوبة رادعة وهو السبب في القصد الجنائي كما قال القضاة ورجال القانون؟ كيف نترك رجل أعمال طمع في المال العام وقدم رشوة لمسئول لكي يسرق مال الشعب ويضمه إلي أمواله دون عقوبة خاصة وأنه اعترف تفصيليا بذلك أمام أجهزة التحقيق وأمام المجتمع كله؟ وكيف نترك سمسارا محترفا تخصص في جرائم فساد حقيرة واعترف بها ولم يتب منها؟ *** أتمني أن تراجع الحكومة قانون العقوبات وتخلص مصر من المادة 107 التي أدانها كل رجال القضاء واعتبرها بعضهم رخصة لممارسة الفساد في مصر. أتمني أن يتفرغ مجلس النواب المصري لمهمته الأساسية وهي التشريع وأن يتخلص من حفلات الاستقبال والتصفيق وإلقاء الشعر النفاقي للشخصيات العامة - داخلية وخارجية - فليست هذه مهمة أكبر وأعرق برلمان في العالم العربي. مصر في حاجة إلي تشريعات عادلة ورادعة تواجه الفساد بكل أشكاله وصوره وتقطع رقاب الفاسدين كما تفعل الصين حتي تنضف مصر من هؤلاء المجرمين الذين جمعوا الملايين من الحرام ولاتزال شياطين الجن والإنس تلعب بعقولهم وتزين لهم سرقة ما تبقي من فتات لدي الشعب المصري.