يتعجب المرء حين يجد أن ديننا الحنيف يدعو للأخذ بأسباب القوة وأسباب النجاح ثم التوكل علي الله مسبب الأسباب بينما تذهب ثقافتنا في اتجاه معاكس تمامًا حيث تشيع علي ألسنة العامة والنخبة أيضًا . الحكومة والشعب عبارة ¢ خليها علي الله ¢.. وننسي تمامًا قول ربنا عز وجل ¢ وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون ¢ وقول رسولنا الكريم ¢ اعقلها وتوكل ¢.. وقوله ¢إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه¢.. هذا هو جوهر الخطاب الديني بينما سلوكنا وتصرفاتنا شيء آخر فيه من السلبية والتآكل والخرافة ومخاصمة العمل والعلم أكثر مما فيها من الجدية وبذل الجهد والعرق والإنتاج الحقيقي. الفهم المغلوط لجوهر الدين والانخراط في تدين شكلي يغض الطرف عن الأخذ بأسباب الحضارة والعمران والرقي هو آفة أمتنا وشعوبنا وحكومتنا علي السواء.. وليس ما حدث في الإسكندرية من كارثة السيول التي أودت بحياة أبرياء وأصابت الحياة بشلل تام إلا ضربًا من ثقافة التواكل وسياسة رد الفعل العقيمة التي توارثتها حكوماتنا منذ عقود.. كشفت الأزمة عن غياب إدارة للأزمات فرغم أن رئيس الوزراء شريف إسماعيل كان في الإسكندرية قبل أسبوع من غرق المحافظة الساحلية في سيول الأمطار فإن ذلك لم يمنع وقوع تلك الكارثة. يفترض في الحكومة العصرية أن يكون لديها فوق الحس السياسي فن التنبؤ بالأزمات والاستعداد لاحتوائها وتفادي مخاطرها خصوصًا بعد ثورتين كبريين رفعتا سقف الطموح والآمال لدي الشعب الذي ما عاد يقبل بغير الشفافية والمحاسبة سبيلاً للإدارة السياسية والأهم هو وجود كوادر لإدارة الأزمة داخل الحكومة تخاطب الرأي العام .وتطرح الحلول العلمية السليمة لإدارة أي كارثة فور وقوعها .والتعامل مع مؤشراتها قبل حدوثها أو تفاقمها. لقد تنبأت هيئة الأرصاد الجوية بطقس غير مستقر وعواصف وأمطار وسيول جارفة فماذا فعلت الحكومة.. ماذا فعل المحافظون..هل نشطت الأحياء في إصلاح وصيانة شبكات المجاري والأمطار لتصريف مياهها فور هطولها حتي لا يحدث ما رأيناه في الإسكندرية التي غرقت في بحور من المياه .والأدهي أن شوارع الكورنيش كانت بين الغارقين رغم أن بها شبكة قديمة لتصريف مياه الأمطار علي الطراز اليوناني العتيق أصابها العطب ولم يلتفت إليها أحد.. فماذا تجدي استقالة محافظ الإسكندرية الذي طاردته الاتهامات منذ توليه منصبه في حكومة المهندس محلب ولم تلفت نظر الجهات المنوط بها رقابة الأداء. وتوجيه المسئولين وتقييم أدائهم. تحركت الحكومة.. نعم.. لكن بعد فوات الأوان.. أقيل محافظ الإسكندرية واجتمعت الحكومة في صبيحة اليوم التالي بكامل تشكيلها بدعوة من الرئيس السيسي الذي طالبها بضرورة إحداث تغيير جذري في تعاملها مع الأزمات .فالرئيس يبذل جهوداً جبارة لتغيير وجه الحياة علي أرض مصر ويتحرك بسرعة الصاروخ في ملفات الداخل والخارج لكن بقية الأجهزة الحكومية تسير بسرعة السلحفاة وكأن ثورة لم تقع. وكأن شيئاً لم يتغير.. تدير الأمور بالطريقة القديمة وبعقلية الموظفين الغارقين في البيروقراطية وفساد الإدارة. الحكومة تتحرك بعد فوات الأوان رغم علمها أن مرافق الدولة أغلبها متهالك سواء شبكات الصرف الصحي التي تعطي 50% فقط من المناطق المعمورة بمصر "88 % في الحضر و 12 % في الريف" أو بقية المرافق الخدمية التي ليست علي ما يرام والدليل أن القاهرةوالإسكندرية كبري مدن المحروسة تغرقان في شبر ميه وتعانيان ضعف المرافق وسوء النظافة..فما بالنا بعواصم المحافظات والمدن الأخري. الحكومة اعتمدت 74 مليون جنيه لمحافظة الإسكندرية بصفة عاجلة لشراء معدات لمواجهة السيول والأمطار.. فلماذا لم تتخذ مثل هذا القرار قبل فترة كافية لاسيما وقد عانينا مرارة الإهمال والتقاعس الحكومي في العهود السابقة . ولماذا ترك محافظوها المتعاقبون شبكة تصريف مياه الأمطار علي حالها المتردية دون إصلاح وقد زادت أعباؤها بعد استفحال مخالفات المباني.. والسؤال الأهم : هل تحركت الحكومة لصيانة مخرات السيول وتجهيزها للعمل بكفاءة علي مستوي الجمهورية وقاية من كوارث مماثلة؟! كارثة الإسكندرية كشفت عن عجز الحكومة وقصور رؤيتها وأدائها تمامًا كما كشفت تراجعها عن تنفيذ قرار ال 10 درجات للسلوك والحضور أمام انتفاضة طلابية أظهرت مدي الخلل في إصدار القرارات وتنفيذها.. فلماذا صدر القرار من البداية بغير دراسة كافية.. وإذا كان القرار مدروسًا وصائباً فلمَ التراجع أمام ضغوط طلاب الثانوية وأوليائهم؟! ألا يدرك أولو الأمر أن إصلاح التعليم فريضة غائبة لن تتحقق إلا بالانضباط الإداري بالمدارس .ودحر التسيب .وحضور الطلاب والمدرسين علي السواء . والقضاء علي آفة الحفظ والتلقين والغش وتعزيز القدرة علي الفهم والحوار والتحليل والنقد والابتكار والخيال . واختفاء خطيئة الدروس الخصوصية . وبذل المدرسين أقصي جهودهم في الشرح داخل الفصول التي ينبغي تقليل كثافتها الهائلة التي تعوق العملية التعليمية . وكذلك إنهاء ازدواجية الكتب المدرسية بين خارجية وداخلية . وأخطاء الامتحانات وتسريباتها .والفوضي في طبع الكتب وازدواجية النظام التعليمي أو التعددية ما بين خاص وحكومي ودولي وغيرها من مظاهر الفوضي والعبث بعقول طلابنا. وأحسب أنه ما من وزير تولي وزارة التربية والتعليم إلا وأراد إصلاح المنظومة التعليمية لكن مسعاهم قوبل بعاصفة تعويق اجتمعت لها جميع أطراف المافيا المستفيدة من فساد الوضع القائم.. ومن ثم فلا إصلاح لهذه المنظومة إلا بإعطاء الوزير فرصته كاملة لإصلاح مواطن الخلل والفساد في منظومة معوجة. 1⁄4 مهمة الحكومة أن تكون خادمة للشعب لا متعالية عليه .متجاهلة لآلامه وتطلعاته . ساهرة علي راحته وأمنه لا تتركه فريسة للغلاء وهواجس الخوف علي المستقبل.. ولن تنجح الحكومة إلا إذا تحلت برؤية سياسية علمية تحدد جدولًا زمنيًا للإنجاز..تحدد فيه ما المطلوب فعله بدقة.. وكيف سيجري تنفيذه.. وكيف تقيس رضا المواطن عن أدائها.. وأن تستحدث إدارة في كل وزارة ومحافظة تتوقع الكوارث وتضع الخطط وتطرح البدائل الدينامية والحلول العملية للمشكلات المزمنة والملفات المتعثرة .وأن تعتمد منهج الإفصاح والشفافية وسرعة التجاوب مع الرأي العام والتفاعل مع ما يطرحه الإعلام الجاد من قضايا ومشكلات جماهيرية. 1⁄4 ينبغي لحكومة شريف إسماعيل أن تضع نظرة الشعب وتقييمه لأدائها والأهم رضاه عن هذا الأداء نصب أعينها. وأن تتخذ من مؤشراته أداة لتعظيم الإيجابيات وتفادي السلبيات حتي لا نظل أسري للصندوق القديم نعاني انفصامً مزمناً بين الحكومة والشعب يقودنا لضيق الأخير وسخطه علي أداء حكومته.. وكان مرجو أن يتغير الأمر بعد الثورة وأن تتبدل الجفوة بين الطرفين إلي تواصل وتفاعل ورضا وأن يصبح الشعب بؤرة الاهتمام وغايته. وبما أن شيئاً من هذا لم يحدث فإن السؤال المنطقي : لماذا لم يحدث ذلك.. وهل لغياب الشفافية والمكاشفة في مخاطبة الرأي العام فيما يتعلق بأخص خصوصياته.. لماذا مثلاً لم تعلن الحكومة أسباب خفض قيمة الجنيه مرتين متتاليتين أمام الدولار.. لماذا تعمل المجموعة الاقتصادية بمعزل عن محافظ البنك المركزي أو العكس.. فإذا تتوقع الحكومة من الشعب.. هل يصدقها أم يحسبها تستخف به ولا تقيم لرأيه العام وزنًا فيما تتخذه أو تتراجع عنه من قرارات تخصه بالأساس.. هل تملك الحكومة برنامج عمل وخارطة طريق لعلاج عجز الموازنة وتفاقم الدين المحلي وتآكل الاحتياطي الأجنبي بدرجات غير مسبوق وغير مأمونة.. وكيف ستتعامل مع تداعيات الاستقطاب والانقسام الذي يكاد يمزق أوصال المجتمع والتي ظهرت بوضوح في ضعف الإقبال علي الانتخابات البرلمانية في مرحلتها الأولي.. وهل المخرج الوحيد للحكومة أن تفرض مزيدًا من الضرائب التي يتحمل المواطن الفقير فاتورتها الباهظة أم أن هناك بدائل أخري أكثر إيجابية مثل زيادة الإنتاج المتوقف في مئات المصانع وجذب الاستثمارات الهاربة وعودة السياحة المتوجسة. ماذا أعدت الحكومة لاستيعاب البطالة المتزايدة خصوصًا بين الشباب المتعلم وفيهم للأسف عاطلون حاصلون علي ماجستير ودكتوراة.. أو لعلاج أمية مزمنة تبلغ أقصي معدلاتها بين الإناث أو الفقر الذي يرزح تحت نيره أكثر من 45% من الشعب. ثمة قرارات اقتصادية لن تكلف خزانة الدولة شيئًا يمكن للحكومة اتخاذها فورًا وقد أوصي بها خبراء وأساتذة اقتصاد .وعلي رأسها ترشيد الإنفاق الحكومي وخفض الاستيراد وميكنة الإجراءات الإدارية لمنع الفساد والمفاضلة بين أولويات الوقت ذات الأهمية القصوي للمواطن والتي تحقق العدالة الاجتماعية والسلام الاجتماعي .وتشيع الرضا بين الناس. علي الحكومة أن تضاعف جهودها. وأن تفتح عينيها علي حركة الشارع وما يتفاعل تحت السطح .وأن تأخذ بالجدية نتائج الدراسات الاجتماعية وتحذيراتها.. والتي تربط الجريمة بزيادة معدلات الفقر والبطالة والعنف والبلطجة والعشوائية والزحام والتكدس السكاني وما تجره تلك الظواهر السلبية من مخاطر تهدد المجتمع كله. لم يعد التعتيم والتسويف والتهرب من المسئولية يجدي في عصر لا يخفي فيه شيء .ويتناقل الناس المعلومات وحتي الشائعات بسرعة مذهلة عبر الفضاء الإلكتروني. ومن ثم لم يعد مقنعًا إلا الإنجاز والشفافية خصوصًا في ملفات الصحة والتعليم والاستثمار والسياحة والتشغيل وتقديم ردود شافية مقنعة علي أسئلة ملتبسة زادها غموضًا وقلقًا مواقف قيادات حزبية وسياسية مسئولة. الشعب المصري أثبت دومًا وعيه وصدق رؤيته خصوصًا في المحن والأزمات الكبري ومصر زاخرة بالكفاءات التي لن تبخل عن مد يد العون لبلدها في ساعة الشدة : بصرف النظر عن انتماءاتها ومشاربها الأيديولوجية والسياسية هي فقط تحتاج لدعوة صادقة وإمكانيات لازمة واستقلالية لتحقيق النجاح ثم تقييمها بموضوعية..ولنا مثلًا في تجربة مهاتير محمد في أندونيسيا ولولا دي سيلفا في البرازيل نماذج تحتذي..وكيف بدأت تجاربهما الناجحة بإنعاش التعليم أولاً والانطلاق منه للملفات الأخري وكانت بلادهما يوماً في مثل ظروفنا وربما أقل منا وهو ما ينبغي دراسته جيدًا واستلهام نجاحه. ما نحتاجه الآن بشدة هو إعادة النظر في مسألة العدالة الاجتماعية لإحراز النجاح وزيادة الإنتاج والتصدير وجلب العملة الصعبة وكبح جماح الأسعار وتطبيق الحدين الأدني والأقصي للأجور علي الجميع ومراعاة التفاوت الرهيب بين الأجور والأسعار والإنتاج و رعاية الفئات الأولي بالرعاية بتوصيل الدعم المستحق إليها . وإعادة النظر في ملف الاستيراد ومنع دخول السلع الاستفزازية..فكيف نستورد ثلثي غذائنا من الخارج ثم نتحدث عن الأمن القومي؟! المعالجات الجزئية للأزمات لا تنفع وعلينا جمع عقلاء مصر في الداخل والخارج لوضع روشته إنقاذ للاقتصاد والتعليم والصحة والبطالة.. العلم وحده قادر علي انتشالنا.. المصارحة مطلوبة ولا عودة للروح إلا بإشراك الشعب في المسئوليا.. وتبقي أولويات عاجلة مثل فتح المصانع المغلقة والتوسع في المشروعات الصغيرة والمتوسطة والدفع باتجاه برنامج تصنيعي ضخم للنهوض بمصر ووضعها في مكانها ومكانتها اللائقة. مطلوب إقناع الناس بأنه لا عودة للوراء وأن الإرادة السياسية متوفرة وصادقة.. بقي أن تدرك الحكومة أولوياتها وأن نصبر عليها بشرط أن تكون جادة وفاعلة وحريصة علي مصارحة الرأي العام بما عليها أن تفعله.