غابت عنا منذ أكثر من عام. بعد أن ترددت علينا لعدة أعوام. ولا أدري إلي أين انتهي بها المقام وبدأ الفصل المهم من حياتها بمعهد الأورام والويل لمن تخلي عن واجبه وقطع الأرحام. امرأة مصرية. طحنها الفقر وأذلها المرض. قصتها تحرق القلوب والأكباد وتلعن أهل الظلم والفساد الذين نهبوا البلاد وظلموا العباد. أم مريضة بالسرطان وابنها الوحيد مريض بالالتهاب الكبدي الوبائي فيروس "سي" عاش منذ طفولته يتيما ووالده علي قيد الحياة تخلي عن والدته بعد أن علم بمرضها وتركهما يصارعان الأمواج في بحر الحياة وانصرف إلي حياته الخاصة يبحث عن متاع الدنيا القليل الهزيل. مرت الأعوام والأم المسكينة تتردد علي معهد الأورام بفم الخليج بمصر القديمة وحصل الابن علي الثانوية العامة بمجموع متوسط. علم رجل طيب من الاسكندرية بجانب من قصة الأم وولدها وطلب منها أن يتولي أمر ابنها وينفق عليه طوال سنوات الدراسة حتي يتخرج وقدم أوراقه إلي جامعة بمصروفات ونجح في السنتين الأولي والثانية في كلية التجارة وبدأت المشاكل في السنة الثالثة. توفي الرجل الطيب وطلب أبناء الرجل من الشاب الغريب أن ينصرف إلي حال سبيله. واصل الابن دراسته ثم انتقل إلي السنة الرابعة وفي نهاية العام حجبت الكلية نتيجته لأنه لم يدفع مصروفات العامين الأخيرين "10 آلاف جنيه تقريبا". جاءت الأم تطلب مساعدة ابنها لعله يحصل علي شهادة التخرج ليبحث عن فرصة عمل تساعده علي نفقات العلاج ومواصلة مشوار الحياة. لم تطلب مالاً ولكن طلبت سداد المصروفات والحصول علي الايصال الدال علي السداد لاستخراج الشهادة بعد معرفة النتيجة. نشرت الشكوي عدة مرات ولم تجد المشكلة طريقها إلي الحل ولكن أهل الخير ساعدوا أم الطالب بمبالغ بسيطة تعينها علي أمر الطعام ومتطلبات الحياة اليومية الضرورية. كانت أم الطالب تأتي إلي مكتب "مع الناس" وتجلس معنا حينا من الوقت تتحدث معنا. وتفرغ شيئا مما في صدرها وتشعر بأنها وسط أهلها واقاربها. كانت ضعيفة شديدة الهزال. تبدو كأنها صورة أو خيال تعجز عن وصفها حروف الكلام وسطور المقال تشكو من آلامها وانها لا تستطيع المشي إلا بمشقة بالغة. كانت تحصل علي طعامها من محلات البقالة بالأجل ولا تستطيع دفع ثمنها أول الشهر وتذهب إلي محل آخر وثالث وهكذا حتي أعياها الحرج فلا تستطيع المشي في شوارع منطقتها خوفا من نظرات أصحاب المحلات. كانت تبحث عن كسرة خبز تأكلها حتي تأخذ عليها الدواء فلا تجد فتخرج تحت ستار الليل تبحث في القمامة وبجوار الجدران عن كسرة خبز جاف لتأكلها وتأخذ الدواء. علمنا منها في السنة الأخيرة انها تقيم بحجرة بائسة بمنطقة عشوائية بحي شبرا الخيمة.. جاءت إلينا أوائل سنة 2011 تروي ما جري لها هجم علي حجرتها بعض البلطجية بعد منتصف الليل واستولوا علي بطانية كانت تحميها هي وابنها من برد الشتاء القاسي المفترس ووعاء بلاستيك كانت تستخدمه في غسل الملابس. لم ترق قلوبهم الحجرية لتوسلاتها بأن يتركوا لها الوعاء والبطانية رغم انها تنام علي الأرض فوق مرتبة قديمة بالية مع ابنها المريض. وشبرا الخيمة مدينة تابعة لمحافظة القليوبية تمثل مع القاهرة والجيزة اضلاع مثلث القاهرة الكبري. قلعة صناعية وزراعية أقام بها محمد علي باشا قصره الكبير سنة 1821 وانشأ مصانع للغزل والنسيج والزجاج ومواسير الصرف وغيرها. واسم شبرا يعني الأرض أو الحقل باللغة الهيروغليفية المصرية القديمة ويعني التل أو المكان المرتفع باللغة القبطية واطلقت عليها "الخيمة" نسبة إلي الخيام التي كانت تقام بها احتفالا بفيضان النيل. غابت عنا أم الطالب ولا نملك إلا الدعاء لها ولولدها بأن يتولاهما الله بعنايته وواسع رحمته.