استبعد النبي صلي الله عليه وسلم من أول الأمر بعد وصوله المدينة أن يتخذ من الدين الواحد أساساً للوفاق يحاور اليهود والمشركين. وإذا كان الدين قد انفصل في وعي النبي عن أن يكون أساساً لوفاق بينه وبين اليهود. وبينه وبين المشركين في المدينة. فما الذي يمكن أن يتخذ أساساً للوفاق الاجتماعي بحيث يتمكن الكل من إنشاء دولة تعبر بالجميع إلي شاطيء السلامة الاجتماعية بدلاً من الغرق في بحر الظلمات؟. ولم يفكر النبي طويلاً. ولكنه بسبب فطنته وذكاء قلبه. وارتفاع وعي عقله التفت إلي مبدأ آخر ينفع الكل ويصلح أساساً للوفاق وهذا المبدأ هو ما نسميه بمبدأ المواطنة وهو مبدأ يدل علي هذه المفاعلة والمشاركة في حب الوطن. والدفاع عنه. والحرص علي بقائه واليهود لا يجدون في هذا المبدأ مصادمة لأهوائهم فمنفعتهم في ظل المواطنة مكفولة. وحقوقهم مرعية. وحريتهم في مكانة لا تقبل اللجاجة أو المماراة. إن اليهود إذاً لا عذر لهم إن رفضوا أن يتخذوا من المواطنة أساساً لوفاق.. ومشركو العرب هم الاخرون لا يجدون في مبدأ المواطنة معارضة أهوائهم في التدين. فهم علي دين ابائهم لا يحاربهم أحد في تدينهم. ولا يغمزهم أحد في معتقدهم. رأي النبي إذاً أن مبدأ المواطنة هو الحل الأمثل لإنشاء اتفاق يجمع بين جميع الأطراف في المدينة. يسميه المحدثون بالدستور واتخذ النبي قراراً سيادياً بممارسة هذا الاتفاق وصياغة بنوده. والموافقة عليه بعد الرضا به. وما أن عُرض هذا الأمر علي اليهود والمشركين حتي سارعوا إلي الدخول إلي معاهدة مع النبي صلي الله عليه وسلم وضعت بنودها بإحكام في غاية من الروعة. ومنزلة من الاستباق. وأنا شأعرض بعض بنود هذه الاتفاقية. فقط لمجرد النظر وتأملها. إثبات ما أدعيه للنبي من هذا السبق في إنشاء المعاهدات الاجتماعية واتخاذ الأساس المناسب لها. جاء في هذه المعاهدة أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم للحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة. ون المؤمنين المتقين علي من بغي منهم أو بتغي وسبعة "محصن" ظلم. أو رثم. و عدوا. و فساد بين المؤمنين. وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم!! وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش. ولا نفساً. ولا يحول دونه علي مؤمن.. وأنه لا يحل لمؤمن من أقر بما في هذه الصحيفة. وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً "مجرماً" ولا يؤويه. وأنه من نصره أو آواه. فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة . ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وأن ليهود بني النجار والحارث وساعده وبني جشم وبني الأوس.. إلخ مثل ما ليهود بني عوف. وأن علي اليهود نفقتهم. وعلي المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر. دون الإثم. وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وأن النصر لمظلوم. وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأن الله علي أنقي ما في هذه الصحيفة وأبره. وأن بينهم علي من هم يثرب. وأن من خرج آمن. ومن قعد بالمدينة من. إلا من ظلم. وأثم. وأن الله جار لمن بر واتقي.