1⁄4 نعم.. نحن تجمعنا المباني ولا تجمعنا المعاني.. الوطن عندنا مبني يلمنا وليس معني يضمنا.. الحزب والجماعة والتيار والائتلاف والمؤسسة والأسرة والمدرسة والجامعة.. كلها مبان تجمعنا وليست معاني في قلوبنا وعقولنا.. لذلك تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتي. وأغري الله بيننا العداوة والبغضاء.. وسعينا ليس أبداً مشكوراً.. لأنه سعاية وليس سعياً.. لأن الوقود الذي يديرنا هو الكراهية والبغض والحقد. المستشرق والرحالة الفرنسي "جيرار دي ترفال" عاش في مصر طويلاً منذ عام 1842 في أخريات حكم محمد علي باشا. وأسلم وتزوج مصرية مسلمة. وانغمس في حياة المصريين ورغم سنواته الطويلة في مصر كان يقول: مهما فعلنا لقبول الحياة الشرقية والاندماج فيها فإننا لا نفقد شعورنا أبداً بأننا فرنسيون.. الحياة بين المصريين لا تطاق مهما روضنا أنفسنا علي قبولها.. هناك نفاق مقيت ومزعج في حزنهم وفرحهم.. وهناك ألفة فظيعة مع الذل والهوان.. يقبلون الظلم ويضحكون منه.. يقول الواحد منهم بملئ فيه إنه لا يرضي بالذل والهوان.. لكن أفعاله تؤكد تآلفه مع هذا الذل.. هناك حزن عميق يسكن جدران وناس القاهرة وأمكنتها ودروبها.. حزن تستطيع أن تدركه بحواسك الخمس.. حتي أنك تشمه حتي في أفراح المصريين ونكاتهم وضحكاتهم. وفي كتابه "رباعيات الإسكندرية" يقول البريطاني "لورانس دارل": الشعب المصري ذليل.. يقاوم بضراوة أي محاولة لتخليصه من الظلم والهوان.. كأنه أحب ذله وعشق هوانه.. وهو شعب يؤمن إيماناً راسخاً بالخرافات والأباطيل. ويكره الحقائق.. بل إنه يؤمن بالخرافات أكثر من إيمانه بالدين.. وإذا اصطدم الدين بالخرافة. وهو دائماً يصطدم بها. فإن المصريين ينصرون الخرافة علي الدين.. بل يجعلون الخرافة من الدين.. وخلطوا الاثنين خلطاً عجيباً حتي صار الدين سبباً في تخلف المصريين بدلاً من أن يكون سبباً في تقدمهم.. فالدين يأبي الظلم. لكن المصريين يقبلونه.. والدين يرفض الذل. لكن المصريين يجعلون الذل من الدين.. فهم يتسولون بالدين.. ويمارسون كل انحرافاتهم وخرافاتهم تحت راية الدين.. ويرون أن الحاكم الظالم قضاء وقدر. ولا ينبغي الاعتراض أو الثورة عليه. ويقول لورانس دارل: الشخصيات السياسية في مصر انتهازية ووصولية.. وتخلط خلطاً فاضحاً ومجرماً بين الدين والسياسة.. وكل سياسي يلعب لحسابه لا لصالح وطن أو قضية.. ولا توجد برامج للأحزاب لكنها تشكيلات مصالح يعطيها الانتهازيون المصريون بعداً وطنياً مرة.. وبعداً دينياً مرة أخري.. والسياسيون المصريون علي اختلاف توجهاتهم يلتقون جميعاً حول مبدأ الانتهازية إن كانت الانتهازية مبدأ.. فلا فرق بين تيار ديني وتيار ليبرالي أو شيوعي في الانتهازية والوصولية.. السياسيون المصريون لا يؤمنون بشيء سوي مصالحهم الخاصة. ويتحالفون مع الشيطان في سبيلها. ويقول دارل: أنا بريطاني عاش في مصر واقترب من كل الساسة بها.. وأستطيع أن أؤكد أن السياسيين المصريين فريقان: أحدهما مرتبط بالاحتلال البريطاني. والمندوب السامي.. والآخر مرتبط برجال الحكم والقصر.. وأتعجب من جرأة هؤلاء علي الكذب.. فهم يخرجون علي الناس كل يوم بخطب رنانة وعبارات نارية ضد الاحتلال البريطاني.. وضد رجال الحكم والقصر.. بينما هم لا يتحركون خطوة دون إذن ورضا البريطانيين والفئة الحاكمة.. حتي الهجوم الناري علي الإنجليز والقصر والحكومة يكون في حدود ما يسمح به الأسياد.. إنه سيناريو بغيض ومفضوح. لكن المصريين يصدقونه ويندمجون فيه.. لم أر أبداً سياسياً موالياً للشعب المصري وللوطن المصري.. فالشعب المصري لا يكسب أبداً من يراهن عليه. ويقول دارل ما هو أخطر من ذلك: الرشوة في مصر أمر عادي جداً ومألوف.. الرشوة عرف لا يستهجنه أحد ولا يخجل منه أحد.. أفعال الفساد كلها هنا شعبية مألوفة. لذلك من الصعب جداً حتي المستحيل القضاء علي الفساد في مصر.. لأن المصريين تآلفوا معه.. حتي الذين يرفعون شعارات القضاء علي الفساد والرشوة هم أنفسهم فاسدون ومرتعشون.. وأعجب ما في هذا البلد التضاد والتناقض الصارخان بين الأقوال الجميلة والأفعال القبيحة.. وأكثر الناس كلاماً ضد الموبقات والانحرافات هم أفسدهم.. والمصري يحدثك عن قائمة طويلة من المحرمات والرذائل المرفوضة وهو يمارسها بشكل عادي دون أن يشعر بالخجل أو التردد. ويحكي دارل عن أنه شاهد بعينيه "اللي حياكلهم الدود.. ودي من عندي".. وزيراً لم يذكر اسمه كان مكتبه مليئاً بأنواع شتي من المصاحف والمسابح. ولم يكن يفوت صلاة جماعة.. وكانت الشعارات الدينية والآيات القرآنية تملأ جدران المكتب.. وكان هذا الوزير مرتشياً. وهذا أمر عادي.. لكن غير العادي أنه كان يدس فلوس الرشوة بين صفحات المصحف.. وعندما يصل الأمر إلي هذا الحد فإن أي حديث عن ضرب الفساد والقضاء عليه يكون حديثاً عبثياً منافقاً كاذباً.. تماماً كحديث الخونة البليغ عن الوطنية. **** 1⁄4 ولأنني زهقت من كلامي أنا الذي "لا يودي ولا يجيب" قررت اليوم أن أترك مكاني لشهود عاشوا هنا وتحدثوا عن رذائل وكوارث الأمس البعيد وكأنهم يتحدثون عن مصر اليوم. ومصر غداً. ومصر بعد غد.. وحتي يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وأترك الكلام الآن للمؤرخ والرحالة الإنجليزي "إدوارد ويليام لين" وهو أيضاً مستشرق عاش في مصر طويلاً وعشقها. وكان يقول عام 1884 إن المرأة المصرية تستطيع أن تمشي علي قدميها من الإسكندرية إلي أسوان في حراسة أهل البلد دون أن يمسها أحد بسوء.. هذه فضيلة تحدث عنها لين. ولم يعد لها أي وجود الآن. لأننا لا تعيش لنا فضائل. لكن تعيش لنا ومعنا الرذائل.. الفضائل عمرها قصير عندنا. لكن الرذائل عمرها طويل. ونتوارثها جيلاً بعد جيل.. وقد تحدث ويليام لين عن رذيلة النفاق عندنا من خلال قصة عايشها بنفسه.. فقال: كنت أتسكع يوماً في إحدي القري ورأيت امرأة تستحم في الترعة.. ولم تفطن لوجودي. وخرجت من الترعة عارية تماماً وفوجئت بي. فأصابها الذهول.. فما كان منها إلا أن غطت وجهها بيديها الاثنتين.. ولم تحاول تغطية شقها الأسفل المكشوف تماماً. ويقول لين: هذا يؤكد حرص المصريين علي ألا يراهم أحد وهم يفعلون العيب.. لكنهم لا يحرصون أبداً علي تجنب فعل العيب.. تماماً مثل هذه المرأة التي كان همها ألا يتعرف عليها أحد.. أكثر من همها أن تخفي عورتها.. كان بوسعها أن تعود من جديد إلي الترعة. وينتهي الأمر.. لكنها مهمومة بألا أتعرف علي ملامحها "يعني مش مهم إن احنا نسرق أو نزني أو نرتشي.. المهم ما حدش يشوفنا.. ودي برضه من عندي". ونحن كما قال عنا القاضي الشعبي للحجاج بن يوسف الثقفي: لقد صادفتنا فتن ومواقف وسوف تصادفنا فتن أخري ومواقف.. وفي كل الأحوال لم نكن ولن نكون بررة أتقياء.. ولا فجرة أقوياء.. وأعود إلي البريطاني لورانس دارل وهو يكمل قصة الوزير الذي كان يخفي مبالغ الرشوة بين صفحات المصحف إذ يعلق دارل قائلاً: المصريون لا يرفضون الرشوة. ولكنهم يرفضون مبلغ الرشوة الذي لا يعجبهم ويرونه قليلاً.. فالمرء يكتسب قيمته من قيمة الرشوة التي يتقاضاها.. رشوة الوزير غير رشوة الخفير "كل برغوث علي قد دمه.. ودي برضه من عندي". ويقول دارل: يزعم المصريون وخصوصاً الساسة الانتهازيين أن أي أجنبي يتطبع بسرعة بطباع المصريين.. ويذوب أي احتلال فيهم نظراً لعراقة هذا الشعب وقدمه.. وهذا كلام فيه مغالطة. لأن الذي يحدث فعلاً أن الأجنبي يكتسب بطول المقام نفس رذائل أي شعب يقيم بين أبنائه ولا يكتسب فضائله.. لأن الفضائل لا تعدي. بينما الرذائل معدية.. وهذه طبيعة بشرية لا علاقة لها بعراقة شعب أو قدمه أو حضارته الضاربة في أعماق التاريخ كما يحلو للمصريين أن يرددوا ذلك. ويقول دارل: وهذا ما حدث فعلاً للجاليات الأجنبية في مصر.. فاليونانيون والأرمن والفرنسيون وحتي الإنجليز الذين اندمجوا في المصريين أصيبوا بنفس أمراضهم من الكذب والنفاق والغش التجاري والرشوة.. وكافة أنواع الانحرافات .. والمصريون يقولون في عاميتهم: "التجارة شطارة".. والشطارة في قاموسهم تعني الغش والكسب الحرام والنفاق ورفع الأسعار وتسويق الرديء.. والتاجر الشاطر هو القادر علي بيع وتسويق الرديء بأعلي سعر.. وليس من يبيع السلع الجيدة.. لأن السلعة الجيدة تسوق نفسها.. أما الشطارة فهي بيع الرديء.. وبهذا التعريف يتحول كل شيء في مصر إلي الشطارة بمفهوم المصريين لها.. فالسياسة شطارة والدين شطارة والصحافة شطارة والقانون شطارة.. بل والحب أيضاً شطارة. وأترك الميكروفون الآن للمؤرخ العظيم الراحل "عبدالرحمن الجبرتي" الذي يروي جانباً من مساوئ ومناقب الشيخ شمس الدين محمد أبي الأنوار بن عبدالرحمن. المعروف بابن عارفين.. الذي استولي علي نقابة الأشراف وسجادتهم من السيد عمر مكرم. وفي سبيل ذلك ارتكب كل الموبقات والجرائم.. وقس علي ذلك ما يفعله المصريون اليوم وما سيفعلونه غداً بلا رادع من ضمير أو دين. **** 1⁄4 يقول الجبرتي: ارتفع شأن السيد عمر مكرم وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد علي باشا. وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي. وصار المرجع في الأمور الجزئية والكلية مع قيامه بنقابة الأشراف خير قيام. وكان شمس الدين يري كل ذلك ويحقد علي السيد عمر. ويطمع في نقابة الأشراف لتصبح ضمن جاهه ونفوذه.. كان حقد شمس الدين باطنياً لكنه يظهر للسيد عمر خلافه.. حتي غضب محمد علي علي السيد عمر وأخرجه إلي دمياط وتقلد شمس الدين النقابة.. وعندها أظهر حقده الكامن وصرح بالمكروه في حق السيد عمر. ومن ينتمي إليه ويواليه.. وسطر فيه "عرضاً محضراً" أي عريضة إلي الدولة نسب إليه فيه كل الرذائل والموبقات. وقال: إن السيد عمر أدخل جماعة من الأقباط في دفتر الأشراف. وقطع "أي حذف" أناساً من الشرفاء المستحقين. وصرف رواتبهم للأقباط المدخلين "أي الدخلاء".. وأن السيد عمر تسبب في خراب الإقليم.. وإثارة الفتن "خلي بالك التهم دي جاهزة إلي الآن للمغضوب عليهم.. تهديد السلام الاجتماعي. وإثارة الفتنة الطائفية وتكدير السلم العام وازدراء الأديان".. كما أن السيد عمر قام بموالاة المصريين البُغاة "تخيل.. المصريون أصحاب البلد هم البُغاة".. وتطميعهم في المملكة "دي لغة الجبرتي".. حتي أنه وعدهم بالهجوم علي البلدة "القاهرة" وقطع الخليج المصري في غفلة الباشا "محمد علي".. وهو الذي أغري المصريين البُغاة بقتل الوالي العثماني علي مصر علي باشا بُرغُل الطرابلسي.. وهو الذي كاتب الإنكليز "الإنجليز" وطمعهم في البلاد مع محمد الألفي حين حضروا إلي الإسكندرية وملكوها "الإسكندرية" ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية "يعني كمان تهمة التخابر مع دولة أجنبية كافرة". ويقول الجبرتي: وكتب الأشياخ خطوطهم علي "العرض المحضر" أي وقعوا وطبعوا ختومهم "أختامهم" ما عدا الشيخ الطحطاوي. وفي رواية أخري "الطحاوي" الذي آثر التنحي عن الشرور والامتناع عن شهادة الزور. فأوسعوه سخطاً ومقتاً وعزلوه من دار الإفتاء.. لقد نحيت نفسي اليوم ليستيقن المرتابون.. ويفيق المغيبون علي الحقائق المرة.. هذا مجرد فصل أول من كتاب "العك واللك".. يزول به من نفسك بعض التردد والشك!! نظرة û يسخر الشاعر الراحل أبوالعلاء المعري من وُعاظ زمانه ويقول في أبيات لا أذكر نصها إن هؤلاء تخصصوا في فقه النساء وفي وعظ النساء.. ويقول عن أحدهم في شطر أحد الأبيات: يُحرِّم فيكمو الصهباء صُبحاً ويشربها علي عمد مساء.. والصهباء الخمر.. وهذا الصنف ابتليت به الأمة علي مر تاريخها.. هو صنف يبيح ويُحرِّم علي مزاجه وهواه.. وهو صنف يري دوماً أن التحريم "بيَّاع" وأن الإباحة لا تبيع.. صنف مضبوط علي الحرام.. يُحرِّم علي الناس ما يبيح لنفسه.. يمارس الاحتكار حتي في الدين.. ويدعو العميان إلي غض البصر.. بينما لا يدعو الذين "تندب في عينهم رصاصة. وهو منهم".. ويدعو الصُم إلي عدم سماع الأغاني. بينما هو يرقص عليها.. ويدعو الخُرس. البُكم إلي أن يمسكوا ألسنتهم عن قول الزور والحرام. وهو شاهد زور.. وأخيراً يدعونا إلي عدم شم النسيم.. لأن شم النسيم حرام.. ولو أننا نشم فعلاً لنفرنا من رائحتهم الكريهة.. "ريَّحُوا أنفسكم.. لا احنا بنشم.. ولا انتوا بتشموا.. ولا بلدنا فيها نسيم.. خلاص شفطتوا الهوا كله وخنقتونا"!!!