منذ حوالى 134 سنة، أعلن الفنانان والأديبان والصحفيان السوريان سليم وبشارة تقلا فى الخامس من أغسطس عام 1876 إطلاق جريدة "الأهرام" المصرية، ومعهما نفر قليل ما بين مترجم ومحاسب وعامل وطباع ومصفف حروف. وفى بداياتها كانت "الأهرام" جريدة أسبوعية سياسية وعلمية وتجارية، تسعى يوما بعد يوم لبناء جسر عريض ومتين من الثقة بينها وبين قرائها حتى أصبحت كبرى الصحف العربية وأكثرها عراقة وثقلاً لدى القارئ، مكنها أخيرا منذ عشرات السنين لأن تصبح هى الجريدة الأولى وشبه الرسمية للدولة بعد "الوقائع الرسمية". إنها "الأهرام" التى وصفها الإمام العلامة محمد عبده منذ 120 عاما قائلا: "يالها من جريدة أرست قواعدها في القلوب وامتدت لتكشف الغيوب.. والفارق كبير بين أهرام خوفو وأهرام الصحافة.. تلك أهرام وأشباح وهذه غذاء للأرواح.. تلك مساكن وأموات وهذه لسان السموات". إنها "الأهرام" التى حققت سبقا عربيا كان له صدى مدوٍ، حيث كانت أول صحيفة تنشر صورة فوتوغرافية في صفحتها الأولي، وذلك عندما نشرت في عام 1891 صورة فرديناند ديليسبس المهندس الفرنسي الذي أشرف على حفر قناة السويس. إنها "الأهرام" التى كتب بها أعظم من أنجبتهم الأمة العربية فى مجال الأدب والفكر، أمثال: الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والأديب عبدالله مسعود، وعبدالله النديم، ومحمد المويلحي. وأيضاً أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل وفيلسوف الحياة المصرية، ثم محمود سامي البارودي شاعر السيف والقلم، وبعده احمد شوقي امير الشعراء، ثم مصطفي لطفي المنفلوطي بالاضافة إلى عميد الأدب العربى طه حسين، والعبقرى عباس محمود العقاد، وفى زمننا المعاصر كتب لها صلاح منتصر وأنيس منصور وعبدالوهاب مطاوع وغيرهم. الأهرام تنهار.. بعد ثورة حضارية عريقة فى مجال الفكر والأدب والعمل الصحفى، تكاد تجارى عظمة وروعة الأهرام الحقيقية التى خلفها لنا أجدادنا الفراعنة ليستثيروا فينا روح العمل والتحدى وبناء المستقبل، لكن للأسف.. يبدو أن "الأهرام" فى طريقها للسقوط، ولن تستطيع الصمود كما تمكنت أهرام الجيزة من الصمود لآلاف السنين. ومثلما اتخذت الأهرام شعارها من أهرامات الجيزة الثلاثة، فإنها تسببت فى ثلاث كوارث، كل منها كفيل بأن يصبح فضيحة مدوية تودى بالثقة التى بنتها الصحيفة على مدى قرن وربع من الزمان. أول فضيحة، كانت المقال السيئ الذى نشرته للفنان تامر حسنى، والذى تسبب لها فى حرج أدبى وفكرى، بل وشعبى كبير، بصرف النظر عن المستوى الأدبى واللغوى ل نجم الجيل، لكن المفارقة أن محتوى المقال نفسه أغضب الكثيرين بسبب مناقشته لإحدى أغنيات تامر حسنى. ولكن مرت العاصفة، وهدأ الجميع، وظلت الأهرام كبيرة وعريقة، ولم يستطع أحد النيل من مكانتها، ولكن هل تداركت الأهرام الموقف، وعضدت مكانتها؟ بالعكس تماما. نشرت الأهرام صورة "تعبيرية" تسببت لها فى فضيحة صحفية دولية، تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، وتصدرت الصفحات الرئيسية لأشهر المواقع العالمية لعدة أيام متتالية، حيث قامت الأهرام بتركيب صورة للرئيس مبارك وهو يتقدم الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "أبو مازن" والعاهل الأردنى الملك عبد الله بن الحسين متذيلة خبراً بعنوان "الطريق إلى شرم الشيخ"، حيث يستعد هؤلاء الزعماء لاستكمال مباحثات السلام وانهاء الصراع الفلسطينى /الاسرائيلى ، بينما نشرت هذه المواقع ووكالات الأنباء الصورة الحقيقية والتى كان أوباما يتصدرها ويسير خلفه أبو مازن ونتنياهو وفى المؤخرة الملك عبد الله والرئيس مبارك. وللحق.. كاد الموضوع أن يمر مرور الكرام، لولا أن الفضيحة اتخذت منحى عالميا، وهنا فكر الأستاذ أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام فى تبرير الموقف، فخرج بحجة ركيكة، حيث وصف الصورة بال "تعبيرية"، وأنهم - كمؤسسة عريقة - لم يقصدون مطلقا التلفيق أو التزييف بل كانوا يقصدون أن تعبر الصورة عن أن المباحثات ستتم فى شرم الشيخ. وقال سرايا - مبررا السقطة الصحفية الكبرى - في مقال له بجريدة الأهرام نشر يوم الجمعة الماضى:"البعض حاول الإثارة علي الأهرام ومصداقيتها، بحجة أنها لجأت إلي تغيير في صورة خاصة باجتماعات قمة واشنطن التي جرت في الأول من سبتمبر... أما ما نشره الأهرام صباح يوم الثلاثاء 14 سبتمبر فهو صورة تعبيرية جاءت بعد القمة ب12 يوما.. ولم تكن هي التي نشرت بتاريخ 1 سبتمبر تحت عنوان الطريق إلي شرم الشيخ.. الصورة التي يتكلمون عنها، برغم أنها تضم القادة أنفسهم، هي صورة تعبيرية وضعت في صدر موضوع آخر بعيدا عن القمة وصورها.. فنحن لا نعيد نشر منتجاتنا الصحفية.. فهذه ليست من عاداتنا المهنية.. الصورة المنشورة تعبيرية حتى يفهم من لا يفهمون". أستاذ أسامة سرايا: شكرا للتوضيح، وزيادة الطين بلة، وتعميق الفضيحة وترسيخها!. وهنا، لم تنته فضائح الأهرام، فبادر محرروها بارتكاب مصيبة ثالثة، ربما تزج بهم جميعا إلى السجن، بل ودفع أكبر وأعرق مؤسسة صحفية فى الشرق الأوسط إلى تقديم اعتذار على صدر احدى صفحاتها، بسبب نشر محتوى صحفى يتسم بالفبركة والتزييف والتحامل. الأهرام خصصت صفحة كاملة فى عددها يوم الأربعاء الماضى للهجوم على صناع مسلسل (أهل كايرو) الذى وصفته بأنه "ينتمى للأعمال الدرامية التى تشكل خطراً على بنيان المجتمع"، ثم وصفت كاتبه الأستاذ بلال فضل بأنه "قدم دعوة صريحة لنشر الإحباط بين الناس واعتناق مفاهيم خاطئة".. "أغلق نوافذ الأمل أمام الأجيال".. و"الأحداث حولت المجتمع إلى بحيرة آسنة وعممت الفساد وتجاهلت النماذج المشرفة".. و"المسلسل تقليد أعمى للأعمال التجارية التى تسعى للربح المادى على حساب القيم"، ليس هذا فحسب، بل قام محرر الخبر بتناقل تصريحات صحفية على لسان عدد من النقاد والمفكرين، تهاجم المسلسل وكاتبه بالطبع، ولكن المفاجأة الكبرى، أن أيا من هؤلاء النقاد لم يقل مثل هذه التصريحات. أعلنها بلال فضل عالية مدوية: "إن الأهرام تفبرك.. وتنشر "اخباراً تعبيرية"، تماما كالصورة التعبيرية التى نشرتها من قبل، حيث قام بفضح الأهرام عندما أكد عبر قناة دريم أثناء لقائه ضمن برنامج العاشرة مساء مع الاعلامية منى الشاذلى، وكذلك عبر مقاله بجريدة "المصرى اليوم"، من أن النقاد الكبار الدكتور أحمد سخسوخ والأستاذ عبدالغنى داود والدكتور حسن عطية، الذين نقل محرر الأهرام هجومه الشديد على المسلسل على ألسنتهم، بأنهم لم يقولوا هذه التعليقات مطلقاً، بل أنهم أشادوا بالمسلسل. وهنا هدد بلال فضل - وهذا حقه - أن يتقدم بدعوى قضائية ضد جريدة الأهرام، وربما يكسب الدعوى، لتنهار مكانة الأهرام تماما، وتفقد قيمتها عند القارئ، ويصبح لائقاً بها بعد ذلك أن يتم استخدام صفحاتها فى لف السندويتشات أو تلميع زجاج السيارات، بدلا من تناقل المعلومات والأفكار والقضايا الخلافية.. كم من قيم وصروح ستنهار فى مجتمعنا قبل أن يصبح "أقل فسادا وطردا للمواهب والطاقات"؟؟؟؟