عجبت من أمور أمتى العربية والإسلامية، رزقها المولى عز وجل كثيرا من أطباء عللها الحضارية، ورغم ذلك يستمر الداء ويتعمد البعض إخفاء الدواء السهل المضمون الشفاء، أصل الداء الذى ضعضع حضارة الأمة وزلزل كيانها هو الانفراد بالرأى على مستوى الأفراد والحكام. أما الدواء السهل الممنوع عمدا فهو الشورى. كنت أبحث قبل أيام فى بعض كتبى الإلكترونية فوجدت (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لكاتبه المفكر العظيم عبد الرحمن الكواكبى، شرعتُ فى إعادة قراءته، ورأيت أن أستل منه بعض السطور فى هذه المقالة وما قد يليها إن شاء الله. يقول الكواكبى فى مقدمة كتابه:"قد تمحّص عندى أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسى ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، وقد استقرَّ فكرى على ذلك -كما أنّ لكُلّ نبأ مستقرا- بعد بحث ثلاثين عاما.. بحثا أظنه يكاد يشمل كلّ ما يخطرُ على البال من سبب يتوهّمُ فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنهُ ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله، ولكنْ؛ لا يلبث أنْ يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشىء، أو أنّ ذلك فرعٌ لا أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.فالقائل مثلا: إنّ أصل الدّاء التّهاون فى الدّين، لا يلبث أنْ يقف حائرا عند ما يسأل نفسه: لماذا تهاون النّاس فى الدّين؟ والقائل: إنّ الدّاء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال: سببه الجهل، يَشْكُلُ عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ.. وهكذا؛ يجد نفسه فى حلقة مُفرغة لا مبدأ لها، فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأنّ الله حكيمٌ عادلٌ رحيمٌ.وإنّى -إراحةً لفكر المطالعين- أعدّد لهم المباحث التى طالما أتعبتُ نفسى فى تحليلها، وخاطرتُ حتّى بحياتى فى درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أنّى ما وافقتُ على الرأى القائل بأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسى إلا بعد عناءٍ طويل يرجِّحُ أنى قد أصبت الغرض. وأرجو الله أنْ يجعل حُسنَ نيَّتى شفيع سيئاتى، وها هى المباحث: فى زيارتى هذه لمصر، نشرتُ فى أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات الاستبداد: ما هو الاستبداد؟ وما تأثيره على الدّين، على العلم، على التّربية على الأخلاق، على المجد، على المال..؟ إلى غير ذلك.ثم فى زيارتى إلى مصر ثانيةً أجبتُ تكليف بعض الشبيبة، فوسّعتُ تلك المباحث خصوصا فى الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلُّص من الاستبداد، ونشرت ذلك فى كتاب سمَّيته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هديةً منى للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيُمْنِ نواصيهم. ولا غروَ، فلا شباب إلا بالشباب.ثمّ فى زيارتى هذه، وهى الثالثة، وجدتُ الكتاب قد نفد فى برهةٍ قليلة، فأحببتُ أن أعيد النظر فيه، وأزيده زيدا مما درستُهُ، فضبطتُه، أو ما اقتبستُه وطبَّقتُه، وقد صرفت فى هذا السبيل عمرا عزيزا وعناء غير قليل. وأنا لا أقصد فى مباحثى ظالما بعينه ولا حكومة وأمَّة مخصصة، وإنما أردتُ بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه. ولى هناك قصدٌ آخر؛ وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم، أنهم هم المتسببون لما حلَّ بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفَقْدِ الهمم والتّواكل.. وعسى الذين فيهم بقية رمقٍ من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات".