سنوات طويلة مرت عليه لا يعلم فيها عن نفسه أكثر من كونه حفنة من المياه أو بضعة قطرات متراصة تجدولها الرياح فى مجرى لتسير هادئة فيه، أما مَن حوله فهم حُراسه لحمايته والدفاع عنه. مرت السنون والحراسة على "النيل" تشتد وتقوى، وكلما زادت فى المجرى المياه، كثرت من حوله المتاريس والقضبان. كان "النيل" كريما معطاءً، يرضى أن يأخذ منه سجانه دون مقابل، بل هو الذى يسارع فيهب له الأسماك ليأكل لا ليقوى بل ليشبع ويمتلأ، ويصب له عذب المياه لا ليرتوى بل ليعب منه حتى ما بعد الثمالة. فى حين أن "النيل" بعدها يعود هادئ البال مستقرا فى مجراه، ظنه أنه قد أدى مهمة وواجبا يسمح لعينيه بعدهما أن يزورهما النعاس. سنوات مضت و"النيل" على حاله من السبات، يستيقظ قليلا فيُطعم ويسقى سجانه، ثم يعود فى سبات من جديد. وذات يوم استيقظ "النيل" على غير موعده، رأى من بعيد أناسا غير الناس، لم يعهدهم ولم يألفهم من قبل، فلهم وجوه تعلوها الابتسامة والسماحة، ويظهر معها أثر للرحمة واللين والرفق، فى حين أن الجباه بها من أثر الإنهاك والبأس ما لا تنفع البسمات فى إخفائه، تبدو على أيديهم خشونة من أثر مجاهدة بادية لعيش شحيح. لم يعهد "النيل" الوجوه من قبل إلا كالحة واجمة مكفهرة، ولم تشى له إلا بتخمة بعد راحة تبعتها راحة وراحة. حَزِن "النيل" مما رآه؛ خاصة حين تذكر تلك القطرات المتساقطة من الأعين الساهرة التى جاءت تبكى أمام السجان وتطلب منه شيئا لم يتمكن "النيل" من معرفته. حار "النيل" فى أمر هؤلاء؛ ولذا قرر ألا يدخل فى سباته العميق إلا ظاهرا للسجان فقط، حتى يتسمع فيعرف من الأمر ما جهل، انتظرهم "النيل" ليأتوا مرة أخرى بضيق وقلق شديدين، فلم يألف من قبل هذا الوجه الحائر من أمر الحياة. تنصت "النيل" فوجد فلاحين بكَّائين فقراء بائسين؛ جاءوا إلى السجان يطلبون منه بعضا من مياه هذا "النيل" حتى تروى لهم أراضيهم التى جفت وتشقق طميها، فلا زرع يسد جوف عيالهم، ولا مياه تروى ظمأ شفاه باتت يابسة مثل الأرض أو ربما أشق. علم "النيل" بالقصة، فمياهه مسجونة إلا على سجان، وحياته مرهونة خلف تلك القضبان، ومنذ ساعتها و"النيل" يبيت حزينا متألما، يعرف أن لديه ماءً وقدرة على الرى، فى حين أنه فى مجراه مدفون، وعن مرعاه ممنوع .. قطرات مياهه تتلمس الاندفاع والتمدد فتواجه بألف سور وسور، من يومها صار حائرا أكثر منه حزينا، كيف صمت وقبِل أن يصير كجدول أو غدير ضعيف وهو من هو فى العمق والطول والاتساع، كيف ارتضى أن تسير المياه فى مجراه هادئة ساكنة وكأنه بركة آسنة بلا حياة. كيف احتمل عدم السؤال عما وراء السور والسجان، ولم تلحظ عيناه من قبل تلك الصحارى الجافة، والزروع اليابسة المتساقطة. أتعب "النيل" قلبه وصدره فى تفكير مرير لم يستطع فيه أن يسامح نفسه أو أن يهتدى إلى وسيلة للخروج مما بات يعتبره أسرا لا مجرد سجن. من فرط التفكير ذهبت عيناه فى نوم من شدة الإرهاق والكدر، وفى نومه رأى دماءً تتجدد فى جباه فلاح بعد أن كان قد اعتاد الضنك والألم، رأى كذلك زهورا تتفتح، وصحارى تدب فى رمالها معانٍ للحياة. دمعت عينا "النيل" من شدة التفكير، وجمال الأحلام، ظلت دموعه تكثر وتكثر، وهو مستمر فى التزمجر والبكاء، أخرج شهقة عالية وثب على إثرها سجانوه من مقاعدهم، وللوهلة الأولى وجل "النيل" من فعلته، ثم أدرك أنه صار الآن الأقوى، وأن الأسوار تتكسر أمام مرج مياهه الغاضبة، غضب "النيل" أكثر وأكثر، ففاضت مياهه مندفعة تقتلع كل سور بل وكل سجان لم يكترث فيسرع ويجرى هاربا. فجأة رأى "النيل" نفسه بلا سجان، اندفع من فوره إلى الصحارى العاطشة، والبطون الخاوية، والأيدى الفارغة، اندفع يهب الزروع والزهور، ويرسم لوحة الجمال الخصبة الدافئة، اتجه يرسم ضحكات كاملة بدلا من ابتسامات قلقة مضطربة. ويمسح جبين الألم، ليخط جبين العمل والأمل. على حين غرة، تنادى السجانون ففزع "النيل" من نومه واستيقظ، أدرك أنه كان حالما لا أكثر، لكنه حلم قد أفسح له مدادا من البصر، فرأى ما يمكنه عمله، وتعلم. إلى الآن.. تركنا "النيل" يقظا من سباته، يسعى لتنفيذ ما عزم عليه وصمم .. فهل يعود إلى السبات، أم يزمجر ليحقق الحلم!!