سمع كثيرا عن جمال “معرض الزهور” وما به من ورود ورياحين وثمار تسر العين في مرءاها، وتضمد جراح القلب لمن يمر بها أو يتأملها في أناة و روية. يتباري جميع زواره في اقتناء ثماره حتي يمكنهم دائما الاستمتاع بألقها الخلاب والإنشراح من عبق شذاها الفوّاح.. دخل المعرض مأخوذا غير مصدق لما يري؛ فقد أدهشته تلك الأزهار النادرة التي لا يوجد مثيل لها سوي في هذا المعرض، ولا يتم حصادها إلا في موسم كهذا، فكاد لبه أن يطير متعجبا بما يشاهد..واستمر في حالة أشبه بالخدر، وذلك حتي وصل إلي أحد المسؤولين عن المعرض، فطلب منه أن يقتني بعضا من تلك الأزهار التي سلبت لبه وهام بها شوقا، فأجابه المسؤول بأن تلك الأزهار التي يراها ليست للبيع..! *كيف..(هكذا جاء رد الرجل في انفعال شديد) وتابع: وإذا كانت ليست للبيع فلماذا تعرضوها هنا، وما هو دورك أنت وكل هؤلاء؟ **بابتسامة مطمئنة وبهدوء شديد أجابه المسؤول مرة أخري: أما عن أنها ليست للبيع فذلك لأن هذا الجمال الأخاذ الذي تراه أمامك، لم يكن بوسعنا أن نقدره لا نحن ولا الآخريين بأي ثمن. ومن ناحية أخري فالقائمون علي هذا المعرض لا يسعون من خلفه إلي أي ربح، وإنما أسسوه لغرض أن يدرك الجميع أن هناك جمالا خلابا كهذا فتسري منه عدوي البهاء والرونق ومنطقهما إلي أبعد حد.. *أخفض الرجل رأسه من شدة الخجل، وكأنه يعتذر إلي محدثه عن تسرعه وانفعاله، ثم أردف قائلا: لا تؤاخذني يا صاحبي، فقد اشتعلت غضبا عندما ظننت أنه لن يكون بإمكاني اقتناء تلك الأزهار الرائعة؛ حتي أصحب بها السعادة وهناء العيش مع أهلي وبين أبنائي.. **وأنا كذلك لم أقل أنه باستطعاتك اقتنائها، فهذا أمر أنا لا علم به؟-هكذا رد عليه المسئول- *صرخ الرجل: ما كل هذه الألغاز المتوالية؟! هيا أخبرني سريعا عن آليات العمل هنا وكيف سأحصل علي تلك الأزهار؟! **أجابه المسؤول ببساطة من لم يتخل عن وقاره وهدوء باله: كما أكدت لك سابقا، ليس لدينا هنا آليات نعمل بها لتوزيع الأزهار، نحن فقط نعرضها ليراها الجميع، أما من يريد أن يمتلكلها فليس عليه سوي أن يذهب للزهرة نفسها، وهناك يحاول أن يقطفها، فما يحصده حلال عليه امتلاكه، مهما كان حجمه أو عدده.. أرأيت كم هو أمر هين يسير، لا يحتاج إلي كل هذا الغضب الذي أبديته والانفعال الذي حدثتني به..! فقط الآن اذهب للزهرة التي تعجبك وامدد يدك إليها ثم انزعها وامضي بها إلي حيث تريد..هيا..لتذهب وتبدأ الآن..ماذا تنتظر..؟! وبتردد وقلق..مضي الرجل..ولم ينطق ببنت شفة..فقد حدثته نفسه بأنه في مكان مريب ممتليء بالألغاز وغرائب الأمور، وليس فقط مجرد محل للتنزه والبيع والشراء.. ولكن وعلي أية حال، لم ير الرجل أيسر من آلية امتلاك الأزهار تلك، فها هم أصحاب المكان لا يمانعون في جني الثمار وقطفها والمضي بها بلا حساب.. وهنا نظر الرجل عن يمينه متفقدا ما حوله؛ فإذا بشاب في مقتبل العمر معه عدد من الجوالات كبيرة الحجم، وقد أخذ في قطف الأزهار تباعا وفي سرعة ونشاط في حين ارتسمت علي محياه ملامح الإغتباط والسعادة البالغين. وما هي إلا لحظات إلا وقد امتلأت الجوالات جميعها وعن آخرها، فحملها الشاب بخفة علي ظهره، وكأنه لا يحمل شيئا، فقد كانت رغم كثرتها خفيفة رشيقة في الحمل..ثم غاب الشاب عن ناظريه حتي اختفي.. وهنا ألهب الحماس قلب الرجل؛ وكأن المشهد السابق قد زاد من عزيمته وإصراره وأشعل في صدره نار الغيرة من هذا الشاب الذي ذهب بالجوالات الممتلئة..وهو هنا مازال ينظر ويفكر ويتعجب..في حين تبعده عن اقتناء ما يحب لحيظات قليلة كتلك التي رأي الشاب يجمع فيها ثماره.. وعلي الفور عاد الرجل إلي سيارته أولا وتناول جوالا وصندوقا وقفصا كان قد ابتاعهم خصيصا لهذا الغرض، ومن ثم ذهب بهم إلي مكان الأزهار حتي يبدأ في الجني والقطف.. وفي حين سرت من بين يديه رعشة تنبيء عن تردد أو توجس بعض الشيء، كمن يعلم أمرا لا يريد أن يواجهه، فيتظاهر بتجاهله أو إسقاطه من حسابه إما تغافلا وإما كبرا..! مد يده إلي الزهرة الأولي وحاول قطفها فإذا بها تستعصي عليه وكأنها مركبة من حديد وأعمدة خرسانية وليست مجرد وردة من أوراق وساق. أدار لها ظهره كمن يتعالي محدثا نفسه: دعها ولا تكترث..فإن الزهر كثير..وبالفعل توجه إلي غيرها وغيرها، وفي كل مرة يجد تلك الغلظة والشدة وكأنه يحاول بيدين ناعمتين أن يقتلع بناء أو جبلا راسخا شامخا.. من داخله كان يعرف السبب بل ومتيقنا منه، لكنه كان كمن يحارب ليثبت خطأ ما يعرف، ولذا فقد حاول مرارا وتكرارا وفي كل مرة يجد النتجية نفسها واحدة لا تتغير. فالزهور عصية علي الاقتلاع رافضة تماما أن تذهب معه أو أن يمتلكها بين كفيه.. أرهقته الحيل..وبلغ به الإعياء مبلغه حتي كاد أن يسقط من فوره علي الأرض في حين تماسك قليلا حتي لا يكون لسقوطه صوت ارتطام..!لم يكن في حاجة لأن يسأل أحدا عن السبب الذي جعل الزهر يستعصي عليه في الوقت الذي كاد أن يطير ويقتلع نفسه ليأخذه الشاب زائر المعرض الذي تابعه حتي مضي بحصيلة موفورة من الأزهار والثمار.. من أمر نفسه.. يعلم عنها أن بذره في وقت الزرع كان مختلفا، فلم يكن يترك أحدا قلقا مما حوله من الأحداث العظام إلا ويحيل قلقه إلي خوف وفزع وينفخ في هشيم قلبه نارا محرقة… فكيف يمكنه اليوم وبعد مرور المحنة أن يجني ثمار “الأمن” أو زهر “الطمأنينة”…كانوا يذكرون إخوة لهم غائبين بالدعاء أن يردهم الله تعالي سالمين غانمين، فينكر عليهم ذلك رافضا التصديق بأن لهذا الغياب القسري حظه من الغنيمة والنفع..! ملأ الحياة من حوله قنوطا ويأسا، وكدّر كل من كان يراه يحاول أو يبتكر؛ فلم يحمل لسانه لهم سوي أحاديث السأم والملل وضياع الفرص ومنعة الخصم..فكيف يمكن اليوم لزهرة “الأمل” أن تميل نحوه أو تقبل السكن في داره وبين أهله…؟! من قبل.. باتت ألسنة تلهج بدعوات صالحات أن يكون فك الكرب بالعزة والشموخ والرفعة؛ فإذا به رافضا لمعاني العزة تلك راضيا بالخنوع أو الخضوع طالما حقق مأربا هو عنده حال وعاجل..فكيف يسعد اليوم ويحتضن بين راحتيه زهرة “النصر” تلك التي لم يبذل لها مهرها من “الصبر” والرضي.. إن الأرض ممهدة لاستقبال تلك البذور في أوقات محددة علي مدار العام تبعا لحالة الجو وظروف الطقس، فما أن يأتي وقت الحصاد إلا ويجني كل ما زرعه هو فقط، ولا حظ له في شراء ما زرعه غيره مهما كان الثمن الذي يعرضه.. في حين أن المعرض متاح لمن أراد النظر ومشاهدة جميل ما بذره الآخرون وربما يمكنه أن يفتخر أن في بني البشر من له فقه في الزراعة والري يسمو به ليقتدي بأمهر الزُرّاع وأحذقهم علي مر العصور، أما اقتناء الثمار والأزهار فهو وقف لمن سبق أن زرع وغرس. المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها