ذات صباح من أيام صباى أهدانى عمى قصريتين رائعتين من قصارى الزرع، وقال لى اهتم بهما فمن الصعب أن تجد مثيلا لهما، فوضعتهما في شرفة الغرفة على الأرض بجوار سورها. القصرية الأولى كانت فيها نبتة ضخمة من الصَبّار الصحراوى المسمى بعِمة القاضى، زرقاء تلمع وكأنها كوكب سماوى.. أما القصرية الأخرى فكانت فيها شجرة فل ساقها عظيمة القُطر وفروعها ذات سُمْك وتحمل بين أوراقها الخضراء أزهارًا بيضاء لم تتفتح بعد. في المساء تفتحت الأزهار، وأخذت شجرتها بعد ذلك تزهر في كل يوم وليلة نحو خمس عشرة زهرة كل منها ممتلئة مثل الوردة، وكنت أضع بعضا منها في كل حجرة، وأقدم بعضا آخر كهدية لمن كان يزورنا، وأترك ما تبقى فوق الشجرة حتى لا تفقد جمالها ولكى يستمتع بعبيرها كل من يقترب منها. ولم تكد تمر أيام حتى بدأت عِمة القاضى في الإزهار، وكانت تزهر زهرة شديدة الروعة كل يوم أو يومين تتفتح في الليل لمدة لا تتجاوز بضع ساعات وتذبل بمجرد شروق شمس الصباح، وكأنها لا تبغى أن يراها أحدٌ من الأحياء، وتبدو في ظلمة الليل مثل كأس متوسط الحجم لونه أزرق يتذاوب عند الطرف الذي منه نشرب مع ألوان الموف والأصفر والأبيض. بعدما عرفتُ طبْعَ تلك الزهرة صرتُ أحاول ألا أزعجها وأحافظ على شعورها وأحترم طقوسها، وكنت أخرج كل ليلة خلسة إلى الشرفة حافى القدمين أمشى ببطء على المشطين حتى لا أقلقها، ومعى كشاف أضيئه فقط حين اقترب منها، وأسلط ضوءه على سور الشرفة بجوارها، بحيث أراها في الظلمة من خلال إضاءة غير مباشرة تمكننى من أن أستمتع بجمالها وسِحْر ألوانها دونما أن أخدش حياءها.. فإذا جاء الصباح تحكم الزهرة على نفسها بالموت حتى لا يراها أي مخلوق وتبدأ على الفور في الذبول! مضت أيام وأيام وأنا أستمتع فيها بعبير الزهور البيضاء في النهار وبروعة وجمال الزهرة الزرقاء في الظلام.. إلى أن قال لى أحدُ الخُبراء إن أردت أن تجعل شجرة الفل تُزهر بوفرة ألق في تربتها بعضًا من مشروب القهوة. ففعلت.. وليتنى ما فعلت!.. فلقد أسرفت فأجرمت!.. كنت أصنع لها كل يوم أكثر من فنجان!، حتى أصابها الجفاف وبدأت أوراقها تتساقط من بعد الاصفرار وكفّت عن الإزهار، فتوقفت عن أن أرغمها على شرب القهوة التي آذتها، لكنها استمرت في الجفاف بشدة حتى فقدت حياتها، ورأيت رأى العين كيف أن الشيء إن زاد عن حده انقلب إلى ضده. ثم وجهت اهتمامى بعد ذلك لعِمة القاضى متسلحا بدروس وعِبَر الماضى، فسألت عن قدر جرعة الماء التي يجب أن تشربها وما هي المواعيد المناسبة لتقديمها، وكنت أحرص على أن أزورها عدة مرات ومعى الكشاف في كل ليلة تتفتح فيها زهرة، حتى فوجئت ذات يوم بتآكل بعض أجزائها، فلما سألتُ عن سر ما أصابها قيل لى ربما أن فأرًا أكلها!.. فلما قلت إننى لم أر من قبل في شرفتى أي فئران، قيل لى إن الفئران تتواجد حيث يوجد الطعام، ولهذا فإن حدث أن دخلت منزل إنسان تأبى أن تسكن إلا المطبخ!.. واستمر الفأر يأكل منها بجُبن حين لا أكون بجوارها حتى قضى تمامًا عليها، فأحزننى فراقها، وتذكرت شجرة الفل التي قتلتُها من قبل.. وأدركت أن من لم يمت بالسيف مات بغيره ولا ريب. ثم زرت بعد ذلك العديد من المشاتل، وسألت في كل مشتل عن نسخة طبق الأصل من شجرة الفل ومثيل يضاهى عِمة القاضى، فقيل لى إن شجرة الفل حسب ما قلت من وصف كانت من النوع (المِجْوِز) وهو نوع غير شائع في الوقت الحالى.. أما عِمة القاضى فكلما أتانى (جنايني) في مشتل بواحدة منها كنتُ أرفضها وأقول له: ليست هذه التي أبحث عنها، فإن وصفتُ له حُسْنها وبهاءها وجمال وروعة زهرتها قال: يبدو أن ما تبحث عنه ليس إلا وهمًا في خيالك ولن تجد له مثيلا في المشاتل!، فأقول في نفسى: صدق عمى حين كان ينصحنى. ومع مرور الوقت كففتُ عن البحث وإن لم يتملكنى اليأس، واكتفيت باجترار ما ترسب في ذهنى من الذكريات أيام أن كنت أطل على الزهرة الزرقاء ليلا بالكشاف، وأيقنت أنه في بعض الأحيان يصعب علينا تعويض ما فات!