لم تتعرض السينما المصرية لشخصية العسكري أو رجل الأمن من حيث التكوين النفسي والسيكولوجي، في تلقي الأوامر من رؤسائه وكيفية التعامل معهم، والتعامل مع غضبهم وزجرهم وإهانتهم، وكيفية امتصاص ثورتهم، بقدر ما تعرضت السينما لنزواتهم الجنسية في فيلم “حافية على جسر من الذهب”، أو تعلقهم بالسلطة واستقوائهم بها كما جاء في فيلم “زوجة رجل مهم”، وغيرها من الأفلام التي جسدت صفات رجل الأمن أو الرجل العسكري بشكل عام، من نزوات جنسية وشبق على السلطة واستبداد وديكتاتورية الشخصية الأمنية التي تصل للاستمتاع بتعذيب الغير بشكل يصل للسادية. مشهد غريب ربما يتكرر في مناسبات كثيرة، لكن نادرًا ما يتم تصويره على الهواء مباشرة، هو كيف يتلقى رجل الأمن أو الرتبة العسكرية، إهانة رئيسه لحد إحراجه على الهواء، وتوبيخه، وجعله مادة للسخرية منه، كما جاء في مشهد “تهزيء” عبد الفتاح السيسي لمحافظ القاهرة خالد عبد العال. مبارك و”شلوت” الألفي هذا المشهد سبقته مشاهد أخرى، أحدها تم تداوله عن طريق حكاية شهود عيان له، خلال حكم المخلوع حسني مبارك، حينما قام بالاعتداء على وزير داخليته حسن الألفي، “ضربًا بالشلوت” – والعهدة على الرواة – نتيجة الإهمال والتقصير في الحادث الإرهابي الذي ضرب مدينة الأقصر وراح ضحيته 58 سائحًا أجنبيًا.. هذا المشهد رغم أنه لم يكن مرئيًا للمصريين، إلا أنه تم تأكيده من عدة مصادر، حتى إنه أصبح متداولا على المقاهي. عنان والسيسي النتن المشهد الآخر معلوم بالضرورة؛ لأن صاحبه اعترف به أمام ضباطه علانية وأمام الكاميرات، وهو لقائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، الذي قال إنه حينما كان يخدم في مطروح، دخل عليه رئيس أركان اللواء، ورجحت مصادر أنه كان سامي عنان، وقال له: “مين النتن اللي حط الدبوس في الأستيكة؟”. فرد عليه السيسي: “أنا يا فندم”.. فوبخه سامي عنان على هذا السلوك”. بينما المفاجأة أن السيسي قص على ضباطه هذه الحكاية، معتبرًا أنها لم تسئ إليه، بل هي من ضرورات العمل العسكري، والتعامل مع رؤسائه في العمل، ناصحًا ضباطه حينما كان وزير دفاع أن يتحلوا بمثل هذه الأخلاق. خالد عبد العال المشهد الثالث، والذي ظهر فيه عبد الفتاح السيسي، وهو يحرج محافظ القاهرة الانقلابي خالد عبد العال، ويسأله عن حجم أموال صندوق تطوير العشوائيات، فلا يرد، ثم يسأله عن ميزانية محافظة القاهرة.. فيتلعثم خالد عبد العال ولا يرد، ثم يدخل السيسي في وصلة جديدة من إهانة عبد العال، غير مكترث بالكاميرات التي تنقل الحدث على الهواء. وبغض النظر عن كون الموقف تم إعداده بشكل تمثيلي من عدمه ليظهر السيسي قوته، وضحالة فكر مساعديه، في الوقت الذي يروج فيه لعبقريته المزعومة، إلا أن المشهد الأجدر بالتحقيق هو كيفية تقبل خالد عبد العال لهذه الإهانة بهذا الشكل، حيث لم يمتعض أو يبدو عليه أي نوع من الغضب بسبب الإهانة، بقدر ما ظهرت عليه علامات الاعتذار والانهبار. ليكون المشهد في نهايته بالإضافة للمشاهد الأخرى التي تمت روايتها، هي سؤال حول سيكولوجية رجل الأمن أو الرجل العسكري بصفة عامة، من خلال القدرة على تقبل التهزيء. سيكولوجية رجل العسكر يقول خبراء علم النفس: إن التركيبة النفسية لبناء الشخصية العسكرية هي من مجموعة من المتناقضات الغريبة التي يعجز علم النفس على جعلها كلها في بوتقة واحدة أو في وصف واحد لتعدد وتنوع واختلاف السلوكيات والتصرفات التي تنتج عن هذه الفئة من المجتمعات العربية والأجنبية على حد سواء، وتتمثل هذه القدرات الخارقة على استقبال مثل هذه المؤثرات الخارجية بدءا من الإحساس بالعظمة والتفرّد يقود الطاغية المستبد أحيانًا إلى تصرفات غريبة (اقتناء أسلحة مطلية بالذهب، اقتناء حيوانات معينة كالأسود والنمور) وأحيانًا يقوده إلى سلوك مضحك، أو إلى سلوك عدواني، أو سلوك من البلاهة غالبًا ما تظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع، فيتقبل “تهزيء” رئيسه كما شرحنا في الأمثلة السابقة. وأضافوا أن الشخصية العسكرية تتميز بصفات الطاغية والذي بالضرورة يعاني من ضغوط نفسية كبيرة كونه المركز الوحيد والمطلق للسلطة في البلاد، تؤدي هذه الضغوط إلى اضطرابات في بنيته الشخصية غالبا ما يستطيع ضبطها والسيطرة عليها في الأوقات الطبيعية ولكنها تظهر إلى العلن بشكل مفضوح في لحظات الانفعال والتهيّج العاطفي، والتكيف مع انفعالات الغير في حال كان يتعامل مع رئيسه، موضحين أن الشخصية العسكرية هي شخصية قابلة للتحول والصيرورة، من حال إلى حال، فالشخصية العسكري لديها القدرة للتعامل مع ” تهزيء” رئيسه، ثم التحول إلى نفس دور رئيسه بتهزيق مرءوسه، إيمانًا من الشخصية العسكرية بأنها أدوار ورتب تخدم بعضها بعضًا. وأوضح خبراء علم النفس أن جوهر الشخصية العسكرية يتجلّى في احترام الذات، والثقة بالنفس، والإيمان بقدسية الرسالة الوطنية، وتبني مفهوم الانتماء وعقيدة الولاء لهذه المؤسسة بما يعود بالنفع على الوطن الأم، وهي الشعارات التي يتم تعليمها لرجال العسكر من أجل تدريبهم على طاعة أوامر رؤسائهم، وتقبل “تهزيئهم”. حتى إن مشهدًا من مشاهد التدريب على هذه السيكولوجية، كشف كيف يتم تدريب الضباط الجدد في حمام المياه على طاعة الأوامر، حتى ولو كانت مخالفة للواقع والعمل العسكري، فتم تكليفهم بغناء أغنية شعبية للنساء تقول: “وسطي بيوجعني”. ومن أبرز السمات التي يجب أن تتصف بها الشخصية العسكرية لتكون على الصورة المثالية، وترقى إلى مستوى التكامل في الجندية المصرية، هي طاعة الأوامر، واحترام القادة والصبر والإرادة، والاستعداد للتضحية، وغيرها من الصفات الهامة في المجتمعات النظامية. وحول أهمية الروح المعنوية وأثرها في تفعيل الشخصية، أشار علم النفس العسكري، مستندًا إلى سلسلة من الاختبارات، إلى أن الحياة العسكرية بصورة خاصة، تفرض وجود شخصية ذات مهارات وقدرات حيوية وصلبة وهي التي يفترض أن تتوافر فيها الاستعداد للتضحية، والتي يترتب عليها، النهوض بهيكلية المؤسسات العسكرية؛ التي تؤثر على الشخصية تأثيرًا مباشرًا. غسل الدماغ الشخصية العسكرية، في السنوات الستين الأخيرة انطوت على مجموعة من السمات والخصائص أدت في النهاية إنتاج ما نراه الآن من سلوكيات وتصرفات على غير أساس توصيفها والهدف من تكوينها وبعض الصفات التي غرست مع ما سبق على سبيل المثال لا الحصر الطاعةٌ العمياء، والمشاعر المكبوتة، ونظام تدريبي يتحكّم في السلوك وما يترتب على ذلك من ضغط عصبي مزمن، وشعور بالتبعية المطلقة، والتقديس في غير موضعه لبعض القوانين، وإنزالها منزل الكتب السماوية، بالإضافة إلى الشعور بالقيد المستمر على مستوى الحياة الشخصية والحياة العامة. هذا النمط من الشخصيات هو أخطر شيء ممكن أن تتعامل معه على المستوى الشخصي. لأن مشاعره المكبوتة وغرائزه المُهانة بسبب كبت تلك المشاعر، تسعى دائمًا إلى الانتقام، وهذا الانتقام يأخذ أشكالًا مُلّتفّة ومُتعددة وغريبة، أبسطها الرغبة المستمرة في إهانة مفهوم احترام الآخرين لأنفسهم. وأما الطاعة العمياء التي تدرّب عليها؛ تجعله يُنفّذ أي أمر يتلقاه، فإذا قيل له اقتل فسينفّذ بدون أن يعرف من هو الضحية ولماذا يُقتل. وهذه النتيجة هي أننا أمام كائن بشري تم تهجينه وتشكيله ونمذجته لكي يكون آلة قمع، لا آلة حماية. وكلمة “آلة”، لأن هناك فرعًا في علم النفس يسمّى "علم التحكم الآلي"، وهو معني بتحويل البشر إلى آلات، والتحكم في سلوكياتها بطريقة مُحكمة مثل التي في الآلات. وثقافة غسل الدماغ أسلوب من أساليب الحرب النفسية يستخدم لتغيير اتجاهات الأفراد بتباع وسيلة تقنية محددة وذلك عن طريق الإقناع القسري المقنن، وهو أيضًا استخدام أي طريقة للتحكم في فكر شخص واتجاهاته دون رغبة أو إرادة منه، ويسمى أيضا غسيل المخ أو لحس المخ (أو الدماغ) أو التفكيك النفسي. السمات النفسية للشخصية العسكرية 1 البارانويا معظم الشخصيات العسكرية التي حملت بعض صفات الطغاة مصابة حتمًا بمرض العظمة (ميغالومانيا)، فهو يختزل كل شيء في شخصيته ويرى العالم من خلالها فقط، هو المركز وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده. جنون العظمة هذا (الميغالومانيا) يكون جزءاً من شخصيته "البارونوية" أو عرض من أعراضها، والبارانويا هي أحد أشكال ما يُسمى باللغة العربية "الذهان النفسي"، وفي بعض الأحيان عقدة الاضطهاد والتآمر، من أعراضها الهذيان الثابت والمنتظم ولكن المصاب قد يبدو ظاهرياً سليماً من حيث القدرة العقلية والاستدلال، غير أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية. 2 الرأي والرأي القاتل طبائع المستبد وكذلك التكوين العسكري لا يمكن أن تتسع لأي خلاف من أي نوع كان، فهو لا يستمع لغيره ويعتقد أنه دائما على صواب، أي اختلاف معه بالرأي هو جزء من المؤامرة عليه، هذا الخلاف حتى لو كان بسيطًا جدًا، يُشكل خطرًا على سلطته وعلى وجوده لذلك يستوجب التخلص من مصدره وبدون أي تردد، فغالبا ما يكون الطاغية "سايكوباتي" يميل إلى السادية وخصوصا في لحظات الغضب والانفعال حيث يسقط قناع العقل والتهذيب الذي عادة ما يحاول الشخص السايكوباتي إظهار نفسه بهما. أو يتصف بالمازوخية وهي عكس السادية ويرغب بشدة في الإهانة ويستمتع بها ويشعر بلذة في المزيد منها ولكن يكون ذلك بصورة مخفية وغير مرئية وللشخصيات الأمنية في ردة الفعل، غير أنه يعيش دور المستبد، فالمستبد لا يعرف الرحمة والشفقة، وانتقال الشخص من حيّز الصداقة معه إلى حيّز العدو الخطير يتم لأتفه الأسباب وربما تكون وهمية. والعسكري الطاغية متكبر ومغرور ينفرد برأيه ويستقل به ويعتقد أنه المصدر الوحيد للرأي الصحيح والفكر الصحيح وقراراته دائما حكيمة ويعتقد أيضاً أنه مهم جداً على الصعيد العالمي وأن قراراته تشكل حجر الزاوية في السياسة العالمية، وكما هو عرضة لمؤامرة داخلية من أعدائه "في" الوطن، هو أيضاً عرضة لمؤامرة خارجية من أعداء الوطن الذي يمثله ولا يوجد غيره قادر على تمثيله. أي اختلاف معه بالرأي أو نقد له يُعتبر اعتراض على سلطته وتمرد عليه ويستفزه لأنه يضع صورة العظمة التي يرسمها لنفسه موضع الشك. 3 الألوهية يذكر عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) أنه “ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله” فالطاغية يعتقد أنه على تواصل مع قوى عُليا يستمد منها قدرات خارقة لحماية اتباعه، فإرادته هي إرادة الشعب المنبثق عنه، وممثل له ومهمته الأولى هي انقاذ هذا الشعب من المخاطر التي تحيق به. إنه ملهم الشعب ومصدر الأمان بالنسبة له وهكذا فإن عبارة “سوريا الله حاميها” تعني ضمنيًا أن الله يحمي سوريا لا لشيء عند السوريين كشعب وإنما بفضل وجود القائد الرمز الملهم المبارك من قِبل الله. 4 النجومية المستبد يُقدم نفسه كشخصية مطلقة تجتمع فيها المتناقضات، فهو قوي جبار شجاع يضرب بيد من حديد بدون أي شفقة وبنفس الوقت لا يتردد عن ارتداء معطف الأب الحنون المحب العطوف الحكيم الذي لا يتوانى عن تقديم العطاءات والمكرمات لأتباعه، ويمكننا أن نرى تعبير صارخ لهذا التناقض في الألقاب التي اختارها الطغاة لأنفسهم أو دفعوا من حولهم لاختيارها لهم.