انصرفت واجمة محدقة في اللاشيء بعد ما يقرب من الساعة علي وقفتها أمام جدول إمتحان نهاية العام؛ والذي أدركت أنه يتزامن مع موعد زيارة والدها في المعقتل، وها هي تفكر في تلك العبوات من العقاقير والأطعمة تلك التي تسهر هي ووالدتها في إعداداها كي تكفي “الزنزانة” بأكملها بحسب دورهم في جدول إعداد الطعام المتفق عليه بين الأسر؛ في حين أن كبر سن والدتها سوف يمنعها من حمل تلك الأمتعة والذهاب للزيارة بمفردها خاصة مع طول الطريق ومشقة السفر، أدبرت عائدة تجر في أقدامها لا تكاد تري أمامها مسقط أشعة الشمس في وضح النهار، وقلبها ملؤه الحزن والألم، وعقلها مشتت لم تستطع جمعه وكأنه خيوط تشابكت وتداخلت وتحتاج إلي الوقت الطويل والعمل الجاد من أجل حلها وإعادتها مستقيمة نافعة كما كانت..! وفي سيرها عائدة إلي البيت استوقفتها إحدي زوجات المعتلقين التي تسكن بالقرب منها، وكأنها أدركت سريعا ما حدث، فكثيرا ما مرّت عليها مواقف مشابهة؛ حتي اكتسبت ليس فقط خبرة في التعامل معها، وإنما أيضا مناعة ضد صدمات الحزن والألم التي تمر بهما تلك الفتاة الآن، أمسكت تلك الزوجة بزراع الفتاة مانعة إياها من المُضي والعودة وهي علي حالها هذا من الحزن، وببطء حاولت الفتاة استجماع أمرها لتفهم ما يجري حولها، فبدت منها للوهلة الأولي علامات استفهام ثم دهشة، أعقبتهم بإسهاب في إيضاح ما حدث من تزامن وقت الإمتحان مع الزيارة التي ينتظرونها بترقب بين الحين والآخر علي الأقل حتي يتمكنوا من توصيل بعض المتعلقات البسيطة والعقاقير اللازمة لوالدها ومن معه؛ وقد كانت دهشتها أكبر عندما رأت الزوجة تشير لها بألا تكترث وأن تصبر قليلا حتي يجدا سويا-بإذن الله تعالي- حلا لإنقاذ الموقف..تهلل وجه الفتاة، وتسمرت قدماها في مكانهما، وسريعا قامت الزوجة بالإتصال الهاتفي بأخري متمتة لها بالقليل من الكلام، وبشكل خاطف وسريع حضرتك تلك السيدة الثالثة واتجهت من فورها نحو الفتاة فخففت عنها ما هي فيه من قلق وحيرة، ثم عرضت عليها أن تأخذ ما لديها من طعام ودواء لتعطيهم لزوجها هي في الزيارة وتطلب إليه أن يحملهم إلي صاحبه عندما تحين الفرصة لهما. وما إن سمعت الفتاة هذا المقترح إلا وطارت من الفرح، وكأن حجرا ضخما قد أُزيح من فوق قلبها، ثم عادت سريعا واجمة، عندما فطنت إلي هذا القدر الكبير من المستلزمات التي سوف تتجشم تلك السيدة عبء حملها؛ خاصة بعد أن علمت أنها ستأخذ معها أيضا زيارة من أسرة أخري ينشغل أفرادها تلك الآونة مع والدتهم المسنة في المستفشي ومن ثم فلا يوجد من يذهب باحتياجات معتقلهم إليه، فكيف يمكنها أن تحمل كل هذا علي كتفها وتدخل بمفردها؟!.. نظرت الفتاة إلي السيدة الطيبة مترددة في قبول عرضها مشفقة عليها من ثقل الحمل ومعه مخافة الإيذاء من رجال التفتيش ومخاطر ذلك وويلاته، ولكن السيدة هونت عليها وقالت: “إن المصاعب والمشاق بعد إذن الله سريعا ما تُنسي وتندثر خاصة إذا ما تشاركنا سويا في الهموم والأحزان، ويكفي جبرا لخاطري وعوضا لي عن كل مشقة، أن أري فتاة مثلك يتبدل حزنها فرحا، ويتهلل وجهها بشرا بعد غم”…ظلت الفتاة في مكانها مطرقة تتابع السيدة الكريمة في سيرها حتي آخر نقطة يمكن لها أن تراها، وقد كان قلبها يعتصر ألما وهو يتخيل السيدة تتعثر في مشيتها وتتباطيء في سيريها من ثقل ما تحمله علي كتفيها من أشياء..!! وبعد أيام وما أن انتهت الزيارة وفي طريق العودة أقسمت سيدة أخري علي غيرها من السيدات أن يشاركنها استقلال تلك السيارة التي تستأجرها لتحملها ومتاعها في كل زيارة، ورفضت أن تأخذ منهن أدني مشاركة مادية نظير ذلك، وزادت علي ذلك بأن صارت من بعد تمر عليهن -كل في بيتها- فتوفر عليهن مشقة حملة الأمتعة حتي بوابات المعقتل الذي يضم أغلي من لهن..! مثل هذا “الكتف” كان هناك أيضا داخل إحدي المعتقلات يتكيء عليه ذاك الشاب المريض فاقد الوعي والذي ألقته قوات الانقلاب ذات نهار بين أفراد “الزنزانة”، والدماء الساخنة مازالت رطبة علي رأسه وجبهته من فرط التعذيب، تلقاه المعتقلون بينهم وقد أُغلق عليهم جميعا الباب، وصار بينهم هذا الشاب أقرب إلي الموت مودعا الحياة، وعلي عجل امتدت كل الأيدي للمساعدة والتطبيب والعلاج، وبأبسط وأقل الأدوات بدأت رحلة علاج إنسان وانقاذ حياته، وقد وضعت في ذلك الأخوة والمحبة لمستهما الحانية وكأنها أشعة سحرية فحلت البركة في تلك الأدوات والعقاقير الأولية، فأفاق الشاب، ولاح الأمل في شفائه وعافيته، وقد كان المعتقل المريض قد استردّ وعيه فقط ولكنه لم يسترد قدرته علي الحركة أو حتي خدمة نفسه، ومن ثم فقد بادر أحد المعتقلين من فوره وقرر تحمل كافة أعباء خدمة الشاب حتي يسترد قوته وتعود له صحته تماما. وبالفعل، فما أن تشرق شمس الصباح والتي يعرفها المعتقلون خبرا من خلف حوائط الجدران، إلا وينتفض ذلك الشهم الصبور، فيأخذ الشاب علي كتفه حتي دورة المياه التي يساعده فيها أيضا، ثم يعيده إلي متكئه بعد أن طهره وأنعش جسده بالقليل من الماء المتاح، ثم يعاود الكرة عدة مرات أثناء اليوم، وبعد أن استردّ الشاب إدراكه وبدأ في الكلام والإشارة، بات يطلب مباشرة كل ما يريد من صديقه المتطوع هذا، فيلبي له علي الفور كل ما يريد ويحمله علي كتفه كلما أراد الحركة أو استخدام دورة المياه، وهو في هذا كله باشا مقبلا، لا يتأفف أو يتضجر، بل يثني علي ثبات الشاب وسعة احتماله ويلات التعذيب وآهاته الحارقة..ومرت الأيام وقد استردّ الشاب صحته وبات يتحرك وحده يمنة ويسرة، ينظر إلي تلك اليد التي كانت تحمله وتصبر عليه نظرة إكبار وتقدير ويعجز أن يوفيها ما تستحقه حتي وإن تلا عليها قاموس الشكر والثناء بكل ما يحويه من كلمات بدءا من صفحته الأولي وحتي الختام..!! وفي ظلمة السجون كذلك أضاءت طاقة نور مبثعها ليس القناديل أو مواقد الكيروسين والشموع، وإنما أشعلها كقمر سرمدي أمام بصيرة كل معتقل هذا الجد ذو القليل من الخصلات البيضاء التي بقيت أسفل رأسه لتفسح الطريق أمام تلك الجروح التي تقيحت وإلتهبت إثر نوبات التعذيب والصعق المتكررة، في حين بقي قلبه بعيدا عن كل تلك القيود والأسقام، فكلّف نفسه بأن يكون محضنا لكل صاحب هام، وبحّارا يؤشر باتجاه الطريق عندما تتلاطم الأمواج وتشتد الرياح فتهتز السفينة وتوشك علي الغرق، ولكنه –ومن مثله- يثبتون في أعلاها يستنهضون الهمم ويقرأون صفحات النجاة التي تتجلي أمامهم بيقين في الضفة المقابلة. عجيب إذن أمر هذا الكتف؛ تتظاهر السُبل بأنها قد انسدت أمامك، وتصير من شدة كربك كالهائم التائه وسط تلال الرمال الناعمة في الصحراء القاحلة، وتبدأ أقدامك في الإنزواء داخل الرمال تحفر لك قبرا يتسع لجسدك وطموحك وأحلامك معا، ثم وعلي حين غرة، تجد يديك قد تعلقت أعلي كتف انبعث إلي جوارك كفارس أعلي جواده آتي مسرعا من عالم القصص وحكايات التاريخ، فتندفع نحوه بكل قوة، فلا يخيب ظنك، بل يصبر عليك حتي تستجمع قواك، ويتركك تتشبث به تماما حتي تنجح في الخروج من هوتك السحقية وتصير واقفا علي أرض صلبة مثله تماما أو ربما أشد وأعتي، فتعي حينها الدرس، وتعاهد نفسك أن تكون “كتفا” وظهرا يتكيء عليه كل صاحب هوة وكل غريق حتي يصل إلي مرفأه بأمان ثم لا تمكث بين يديه طويلا بل تصرف أذنيك عن الإستماع إلي كلمة ثناء أو شكر لم تنتظر مثلها أو أقل.. كماء المطر حين يرتفع في هدوء بعد أن يسقي الحقول ويملأ الجداول والأنهار..!! المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها