لا يختلف الأتراك كثيرا عن المصريين إلا في أنهم استوعبوا دروس الانقلابات المريرة، ورفضوا المساومة على حريتهم ولقمة عيشهم، وتمتعهم الآن برفاهية سياسية واقتصادية، في ظل هذه القناعة الشعبية روض الرئيس أردوغان أجهزة الدولة ومنها الجيش والشرطة والمخابرات، بعكس ما جرى في مصر التي منيت بانقلاب من الجيش والشرطة والقضاء وجد دعمًا ومساندة من غالبية النخب العلمانية. استفاد الأتراك من كارثة الانقلاب في مصر، بينما في مصر لم تستفد النخب العلمانية من التجربة الدموية للعسكر في الانقلابات التركية، وقفت العلمانية ضد التجربة الإسلامية الناهضة على أكتاف حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين. وكثير من النخب العلمانية وُصفت مواقفها ب"القذرة" في 30 يونيو 2013، وظهر أنه لا مبدأ لها فباعت مصر وحريتها؛ أما في تركيا فالنخبة العلمانية رغم تجذر العداوة والبغضاء للإسلاميين لكن تمسكهم بالحرية كان فاصلا عن قذارة النسخة المصرية. يقول الناشط السياسي أنس حسن: "قارن أوسخ علماني في تركيا بأنضف علماني في مصر، وشوف إحنا محتاجين علمانيين يوصلوا لوساختهم بس"، ويرد الناشط جمال المحمودي: "قصدك قارن أوسخ علماني بتركيا بالسلفي ياسر برهامي أو مخيون أو الصوفي علي جمعة والطيب وغيرهم وغيرهم". لا للانقلاب يرفض كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة العلمانية التركية، الانقلاب على التجربة الديمقراطية، قائلا: "إذا دخلت السياسة إلى الجيش فإن الجيش سينقسم"، وأعاد الحزب الذي أنشأه مؤسس العلمانية التركية مصطفى كمال أتاتورك، انتخاب كليتشدار أوغلو، رئيسا له لفترة جديدة مدتها 4 سنوات، وذلك بعدما تمكن من التغلّب على منافسه محرّم إنجه، في المؤتمر العام ال36، حيث يتزعم كليتشدار أوغلو الحزب منذ بدايات عام 2010. المفارقة أن نشطاء وسياسيين من الفريق العلماني الذين حملوا الانقلاب على أكتافهم لم يسلموا من أذى السفيه عبد الفتاح السيسي، رغم أن بعضهم أيد تظاهرات 30 يونيو 2013، التي قامت ضد الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب للبلاد، حيث استفاد العسكر من تظاهرات العلمانيين في الانقلاب على أول تجربة ديمقراطية بعد ثورة 25 يناير، لتنتهي بها الحال إلى توسيع حملات الاعتقال لتطول نشطاء غير إسلاميين. إلا أن هذه المعاملة وتلك الاعتقالات جاءت بنتائج عكسية، بل وزادت من توحش النخبة العلمانية ضد التجربة الديمقراطية في مصر، ويعتبر مراقبون ذلك مؤشرا على توجه جديد للانقلاب باستهداف القوى الليبرالية والعلمانية التي جعلت خدها مداسا له، بعد أن قطع شوطا واسعا في استهداف التيار الإسلامي، واستخدامه فزاعة لتبرير استبداده وتجاوزاته. القمع هو الحل! ويرى مراقبون أن حملة التضييق على العلمانية في مصر تعكس ضعف العسكر، وخشيتهم من حدوث أي هبة شعبية بسبب الاحتقان السياسي والضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، ويرى المراقبون أنه لو كانت لدى العسكر قناعة بقواعدهم الشعبية لم يكن يخشون بعض النشطاء السياسيين الذين لا يتعدى نشاط بعضهم تغريدات بمواقع التواصل الاجتماعي. ويخلص المراقبون إلى القول إن ما يقوم به الانقلاب سرقة لثورة يناير 2011، بدأت منذ 3 يوليو 2013، وتزداد وضوحا خلال المرحلة الأخيرة، مما يعد دليلا واضحا على الغياب الكامل للرؤية السياسية، وإدارة الأجهزة الأمنية للمشهد السياسي، حيث تعتمد سياسة الاعتقال والإهانة والتعذيب باعتبارها الطريق الأيسر. من جهته يقول ممدوح المنير، رئيس الأكاديمية الدولية للدراسات والتنمية: إن هذه الاعتقالات "تأتي في إطار استراتيجية جديدة للنظام لإخلاء الساحة لمعارضة تديرها الأجهزة الأمنية، تكون تحت السيطرة ومحكومة بخطوط حمراء، وتساعد في تنفيس غضب الشارع دون لسع أقدام النظام". وطبقا لباحثين سياسيين، فإن انقلاب السفيه السيسي لم يختلف عن غيره من الانقلابات حتى في تركيا، والتي تأكل بعضها لصالح الأقوى فيها، مشيرين إلى أن جبهة الإنقاذ – العلمانية- التي منحت الانقلاب غطاء سياسيا؛ كانت الأكثر من حيث الخسارة، يليها قيادات المجلس العسكري الذين دعموا السفيه السيسي حتى وصل لكرسي الحكم. ندم علماني ويقسّم الباحث المتخصص بالشئون السياسية، الدكتور أسامة أمجد، مصير شركاء الانقلاب العلمانيين، إلى أولئك الذين قفزوا مبكرا من المركب بعد اكتشاف نوايا السفيه السيسي الديكتاتورية، ومن أبرزهم نائب الطرطور محمد البرادعي الذي تحول من أبرز مُنَظِر لانقلاب 3 يوليو؛ إلى واحد من أكثر الرافضين له. ويضيف أمجد أن رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة حسن نافعة يأتي في مقدمة المتحولين من التنظير للانقلاب والترويج له، لمنتقديه وواصفيه بالانقلاب العسكري مكتمل الأركان، وأصبح من أكثر الداعين للمصالحة مع الإخوان، ويليه بالقائمة الكاتب الصحفي بلال فضل الذي قدم من خلال كتاباته الصحفية وبرامجه التلفزيونية تبريرات كثيرة للانقلاب، ثم تحول بعد ذلك للإعلان صراحة بأنه انقلاب عسكري. وطبقا لتقسيم أمجد، فإن نائب رئيس أول حكومة للانقلاب زياد بهاء الدين، كان الأكثر من حيث التحول عن مربع السفيه السيسي، ووصفه بالحكم الفاشل الذي خرج عن مساره المرسوم له، ويمثل بهاء الدين أهمية خاصة باعتباره صاحب الفضل في إتمام قرض صندوق النقد الدولي. وكذلك الفقيه الدستوري نور فرحات، والذي يواصل من خلال كتاباته الانتقاد للحكم التسلطي للسفيه السيسي، والسفير معصوم مرزوق الذي كان يأمل أن يكون مرشحا رئاسيا مدنيا، ولكنه فضل الابتعاد واكتفى بتشكيل الجبهة المدنية المعارضة مع غيره من الأحزاب العلمانية والليبرالية والناصرية، وكذلك علاء الأسواني وحازم عبد العظيم، ولا يزال القوس مفتوح على مصراعيه.