تعتبر تركيا أبرز الدول القادرة على تبديل جلدها السياسي بشكل سريع؛ فمن عداوة رئيسها رجب طيب أردوغان للرئيس الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، في مؤتمر دافوس الاقتصادي، إلى تطبيع كامل للعلاقات بين أنقرة وتل أبيب مؤخرًا، ومن علاقات متوترة جدًا مع موسكو على خلفية إسقاطها للقاذفة الروسية، إلى توقيع اتفاقية حول تنفيذ مشروع السيل التركي قبل أسابيع، ومن علاقات مستقرة مع بغداد إلى الوصول لحد قد يصل إلى الاشتباك العسكري، لكن يجب ربط سياسة أردوغان غير المستقرة خارجيًا بالسياسة المضطربة داخليًا. أردوغان والداخل التركي توجه أردوغان بشكل مباشر بعد عملية الانقلاب الفاشل في شهر يوليو الماضي، للمؤسسة العسكرية التركية، وبدأ «المقصلة» بذريعة إقصاء أنصار فتح جولن غريمه الإسلامي في تركيا من مؤسسة الجيش والاستخبارات، حيث حلَ الحرس الرئاسي، وغيّر بنية الجيش وقلّصَ صلاحيات هيئة الأركان العامة، على أن يكون رئيس هيئة الأركان شخصية مستقلة، بل تابعًا لوزارة الدفاع، ومن الصعب الحديث عن رقابة المجتمع المدني على الإصلاحات، التي سُتجرى في القوات المسلحة لاحقًا أيضًا؛ خاصة أن حملة التغيير الواسعة في الجيش والمؤسسات الحكومية، تشمل كل من يُشك أن له علاقة بالحركة الانقلابية أو بالتعاطف معها، وبلغ عدد المعتقلين حتى اليوم أكثر من 13 ألف شخص، لذلك يدور الحديث عن إنشاء هيئة جديدة للأمن مهمتها الحفاظ على استقرار النظام. تحركات أردوغان تجاه الجيش بعد الانقلاب لم تمس الحياة السياسية للأحزاب الداخلية في تركيا، فباستثناء التضييق الذي مورس على أنصار جولن "حركة الخدمة"، التي ليس لها نشاط سياسي، نجد أن الأحزاب السياسية الأخرى لم يطالها سيف التغيير الأردوغاني، بل على العكس، وقفت أحزاب تركية معارضة إلى جانب أردوغان ضد الانقلاب العسكري الذي استهدفه، بل دعم بعضها تحركاته تجاه مؤسسة الجيش ومنعه من تسلم السلطة، ومنهم حزب الشعب الجمهوري المعارض، لكن يبدو أن التهدئة لم تستمر طويلًا؛ فبالأمس رفع أردوغان، شكوى ضد حزب الشعب الجمهوري، أبرز حزب معارض، متهما إياه بشتمه من خلال تنديد الحزب ب"انقلاب سلطوي" ضد المعارضة، حيث تقدم محامي أردوغان بالشكوى ضد جميع نواب حزب الشعب الجمهوري (اشتراكي ديمقراطي)، وبينهم زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو، وستقرر النيابة إن كانت ستفتح تحقيقا بهذا الشأن أم لا؟ وكان الحزب المعارض قال الاثنين الماضي إن "تركيا تشهد انقلابا سلطويا أسود ينظمه القصر الرئاسي"، بعد أن شهدت محاولة انقلاب في 15 يوليو الماضي، وأضاف أن "الوضع السياسي الحالي يمثل تهديدا خطيرا لحرية شعبنا ومستقبل بلادنا". محاولات أردوغان تجاه قمع الأحزاب التي تعارضه يبدو أنها في وتيرة متزايدة، فالمشاكل مع حزب الشعب الجمهوري ذا الصبغة العلمانية، سبقها مشاكل كبيرة مع حزب الشعوب الديمقراطي المقرب من الأكراد، حيث اعتقلت السلطات تسعة من قادة الحزب ونواب له في البرلمان، ومن بين المعتقلين صلاح الدين دميرطاش وفيغان يوكسك داغ، الرئيسين المشاركين للحزب، الأمر الذي دفع الحزب المعارض في تركيا إلى تجميد أنشطته البرلمانية، وقال أيهان بلغن، المتحدث باسم الحزب، إن الأعضاء سوف يستمرون في البرلمان، لكنهم لن يشاركوا في الجلسات، وأكد بلغن أن "الحزب لن ينسحب من البرلمان"، مؤكدا أن هذا القرار لا يمكن اتخاذه دون الرجوع إلى الشعب. الأوضاع في تركيا حتى الآن، تبدو الجبهة الداخلية لأردوغان غير مستقرة، من حيث مشاكله القديمة مع حزب العمال الكردستاني، وتفجيرات داعش، ثم تبعها انقلاب يوليو الفاشل ومحاصرة أردوغان لمؤيدي حليفه السابق جولن، حتى الطريقة التي خرج بها حليفه، داؤود أوغلو من رئاسة الحكومة تشي بخلافات داخل الحرية والعدالة ستظهر تبعًا، كما أن الطريقة التي يتعامل بها الرئيس التركي مع مؤيدي العلمانية تؤكد عدم وجود أرضية مشتركة بينهما، فمؤخرًا اعتقل أردوغان رئيس صحيفة جمهوريت وهي أقدم صحيفة علمانية في تركيا، كما استحداث عملة نقدية جديدة تخليدًا لذكرى شهداء وجرحى محاولة الانقلاب، وتعد الخطوة سابقة في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها قبل 93 عاما، حيث تحمل النسخة المعدنية القديمة صورة لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك. ومن الناحية الاقتصادية، الليرة التركية في أسوء حالاتها، وديون تركيا تتعاظم، ويرى مراقبون أن تعاطي أردوغان مع الجيش التركي بطريقة الدمية، بمعنى عدو الأمس صديق اليوم، وهو ما شهدناه في علاقة أردوغان بأربع عواصم هي " دمشق، بغداد، موسكو، تل أبيب"، سيزيد من ارتباك الجيش التركي، الأمر الذي قد يؤثر حتى على حلفاء أردوغان من داخل المؤسسة العسكرية، خاصة أن الرئيس التركي بات يدفع الجيش لمواجهات حقيقية ومباشرة في العراق وسوريا على عكس السنوات السابقة التي كانت تصريحاته العسكرية لا تتعدى حنجرته.