ليس من سمع كمن شاهد وعايش الحدث، وكلمة الحق شهادة من يكتمها فإنه آثم قلبه. 24 ساعة فقط قضيتها مع الوالدة الكريمة بعد عودتي من السفر، قبل أن أذهب إلى ميداني العزة والكرامة في النهضة ورابعة، إيمانا مني بضرورة معايشة الاعتصام ساعة بساعة قبل الكتابة عنه، التقيت خلالها وجوها نيرة كثيرة، منها وزير القوى العاملة في الحكومة الشرعية خالد الأزهري والناشط السياسي عبد الرحمن عز، والزميل طارق طه. وكان لابد من كلمة حق تبرز مشاهد من رابعة العزة والكرامة، ذلك الاسم الذي بات يمثل رمزًا للإرادة والعزيمة والصمود في العالم أجمع. في ميدان رابعة تعلمت كيف تكون ثقافة الموت، رأيت رجالا ونساء، أطفالا وفتيات وصبية، رأيت حشودا تتمتع بعزم لا يلين، واثقين في نصر الله لهم ولا يتعجلونه، يدركون أن الله يسبب الأسباب، لكنهم لا يعولون إلا على قدرة الله وتدبيره في تدمير ونحر هذا الانقلاب الدموي الغاشم. المغتصبون يحاولون تخويف شعب كسر حاجز الخوف منذ قرابة أعوام ثلاث، شعب ذاق طعم الحرية والكرامة ولن يتركها تتفلت من يده. رأيت في رابعة سيدات كثر تحملن أطفالهن على أعناقهن ويسرن في مسيرة طولها أكثر من 10 كيلومترات، دنوت من إحداهن أسألها: أختاه، ارتاحي في بيتك، ماذا يحملك على ذلك النصَب الشديد "التعب"؟ فأجابتني قائلة: أنا هنا من أجل ابني هذا، حتى يتنفس أريج الحرية، حتى ينعم في خيرات وطنه بلا قيود دموية واغتصاب مقدراته من قبل العسكر، أنا هنا لأدافع عن صوتي الحر الذي وضعته في الصندوق وداس عليه العسكر بأقدامهم، أبكتني تلك الكلمات حرجا وندما لأني لم تتح لي الفرصة للانضمام إلى الاعتصام منذ بدايته. في رابعة شاهدت أناسا تزداد صلابتهم كلما ازداد الانقلابيون تهديدا وغيا وعنفا وقتلا. لقد ورط الانقلابيون أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بعد تورطهم في قتل الساجدين والسلميين، في رابعة نحن أمام إرادة فولاذية لم يعهدها الانقلابيون من قبل، إرادة استعذبت طعم الموت في سبيل الحرية. شاهدت في رابعة الصمود بأسمى معانيه، حيث الرفعة والعزة بكل معانيها، وجدت دفء مشاعر من الجميع وكرما وسخاء وودا وصبرا وتعاونا وإيثارا وخلقا قويما من الرجال تجاه النساء، وجدت حياة جديدة جميلة. وفي جنازة أحد الشهداء خلف منصة رابعة شممت رائحة ذكية لم أشتمها من قبل، شاهدت دموع الوداع لمن رحلوا سريعا دون كلمة وداع تتساقط فتمسح قبل أن تتكاثف، لكنها تختلط بابتسامة الأمل وبريق الانتصار في العيون المجهدة من طول السهر، والظهور التي أصابها تعب في الركوع والسجود. في رابعة عرفت معنى الرباط في سبيل الله، وجدت شبابا رائعا ينتظرون الموت القريب في كل لحظة ويتمنونه فيذهلون الدنيا بما فيها الانقلابيون. هنا في رابعة كبر الأطفال قبل الأوان فينطقون صبرا، هنا النساء ارتدين ثوب الرجال عزة وإباء وقوة وصمودا، والرجال باعوا الدنيا بكل زخرفها في لحظات صدق حسبناها اندثرت مع تاريخ الفاتحين العظام، فإذا بشباب مصر يعيدونها إلى واجهة التاريخ من جديد. هنا في رابعة شاهدت شبابا تعلموا الحكمة والعقيدة والبطولة، تعلموا ما لم يتعلموه من الكتب، فعلمونا كيف يكون الصمود ضد الطغيان والخسة والخيانة. هنا في رابعة الصمود شرفت بمصاحبة أطهار كثيرين، وضعت كتفي في كتف علماء من الأزهر ويدي في أيديهم، تقدمنا مسيرة قوامها قرابة 300 ألف مواطن ومواطنة من طيبة مول إلى مبنى المخابرات. في ميدان العزة شاهدت شبابا يشمون رائحة الجنة، يتلهفون وكأنهم يتزينون لعرس شهيد في كل لحظة، شهيد أصبحت كل أمنيته أن يعود للدنيا كي يقتل، ثم يعود ليقتل من حلاوة الشهادة. مواكب الوافدين على رابعة الخير ونهضة الصمود تترا من دون انقطاع طمعا في نصر الله، الحشود تزداد كل يوم فنرى وجوها جديدة تضاف كل ساعة إلى هؤلاء الأطهار الذين وهبوا دنياهم كلها لله، أنفسهم وأوقاتهم وأموالهم، وتركوا خلفهم الدنيا ومتاعها القليل. في رابعة العزة شاهدت نساء أبطالا ورجالا صناديد، استظلوا بوهج شمس مصر فكانت أحن عليهم من رصاص الغدر، حتى ترابها وأرصفتها التي افترشوها كانت لهم جنة من دون غيرها. هنا في ميادين العزة الحر شديد، لكن المعتصمين يرون أن جهنم أشد حرا، يدركون أن التضحيات كبيرة، لكن الحرية أغلي. شاهدت رجالا يعلمون أن في مصر من لا يستحقون النضال من أجلهم، لكن هناك دماء ذكية طاهرة، لأطهر شباب عرفتهم بلادنا يجب أن نعيد حقوقهم ونحقق أحلامهم. المخاطر تحيط بنا في رابعة من كل حدب وصوب، لكن الحرية تستحق التضحيات والكرامة وتستوجب الكفاح، إنها الحرية، إنها مصر التي يجب أن نستميت جميعا للحيلولة دون سقوطها في براثن دولة السادة ليعاملونا كالعبيد، لن يكون ذلك إن شاء الله، لن نحيا إلا كراما. لم يقم الشعب المصرى بثورته المجيدة في 25 يناير ضد فساد وظلم وتجبر مبارك حتى تستبدل بمستبد جديد، ديكتاتور متهور متعطش للدماء. كان مبارك ديكتاتورا أفسد هواء مصر وجرف أراضيها كما جرف عقول أبنائها الكرام، أهلك الحرث والنسل، حول مصر إلى عزبة يتحكم الخولي في فلاحيها ويشبعهم ظلما. عندما انتصرت ثورة يناير التي وأدها الانقلابيون حتى الآن، استبشر كل المحبين في مشارق الأرض ومغاربها خيرا بعودة مصر إلى موقعها الصحيح حيث صدارة دول المنطقة بما تملكه من تاريخ وحاضر وثروات نهبها العسكر ستين عاما، جوعوا فيها الشعب وضيقوا عليه. كشف انقلاب 30 يونيو حقائق كثيرة أذهلت الجميع، منها أن نهضة مصر واستشراف ابنائها لمستقبل أرحب لم يرق لكثير من القوى المعادية، فكانت الثورة المضادة بقرار من الحلف الصهيوأميركي الذي لا يستطيع التدخل المباشر ضد مصر، فبدءوا في رسم ملامح خطة الانقلاب منذ اليوم الأول للرئيس مرسي. سارت الخطة علي مراحل عديدة، بدأت بأمل كان يحدوهم في قيام عملائهم من المصريين فى الداخل بإفشال التجربة الديمقراطية فى مصر وتحويلها إلى فوضى سياسية وبلطجة أمنية عن طريق عراقيل وعقبات يتم وضعها أمام الرئيس والسعي لإفشاله بكل السبل وفق سياسة حرق المراحل. ولما لم يؤدِّ ذلك سريعا إلى الوصول للهدف المنشود، كان الاتجاه إلى الجيش، فتم إيهام السيسي أنه الزعيم المنتظر والقائد الموهوب وعبد الناصر زمانه. تم تفويض السيسي من قبل مدعي الديمقراطية وحماتها في العالم أميركا والاتحاد الأوروبي وأبناء صهيون ومن يدور فى فلكهم من الأشقاء العرب، فوضوه لتسيد المشهد كي تفشل تجربة الحكم المدني الذي كان يسعى إلى ريادة ونهضة مصر. أخذ السيسي تفويضا بقتل المصريين ووسم الشرفاء بالإرهابيين، أخذ تفويضا بذلك من أقباط مصر والعلمانيين ووعاظ السلاطين وفلول مبارك وكل سدنة الديمقراطية في العالم الذين يعتبرون قيام حكم ديمقراطي حر فى مصر مصيبة كبرى تحل بهم. وكما كان الإعلام المأجور عمودا رئيسا في الثورة المضادة وإفشال الرئيس المنتخب وتأليب الشعب ضده بتسليط الضوء على سلبياته تارة والأخبار الكاذبة تارة أخرى، كان إعلام العار أيضا شريكا رئيسا في انقلاب يونيو ولا يزال يعزف معه أسوأ الألحان. لكن مناصري الشرعية ورافضي الانقلاب فاجؤوا الدنيا بصمود تاريخي في الميادين تجاوز الشهر، في تحدٍّ للانقلابيين. لم يعرف من فوض السيسي أن شعب مصر ليس كأي شعب، وأن شبابها خرج من القمقم ولن يرضى بغير الحرية التي كانت أهم مكتسبات ثورة يناير. يعول السيسي ومن معه فى الداخل والخارج على قتل مئات من المعتصمين لكي يرضخ له كل طلاب الحرية، لكنهم واهمون، لأنهم لا يدركون أنهم أمام ملايين من الشعب بات الموت لديهم أفضل من الحياة تحت حكم ديكتاتوري دموي. لم تعد القضية على الإطلاق الرئيس مرسي أو جماعة الإخوان، بل تعدت ذلك بكثير، أصبحنا أمام وطن يغتصبه بعض جنرالات الجيش ولواءات الشرطة، يتوقون لأن يكونوا أسيادا والشعب عبيدا، لكن ذلك لن يكون إن شاء الله، فأصحاب الكرامة ملايين من هذا الشعب العظيم لن يمنحوا الانقلابيون ذلك الصك. القضية تخطت حاجز مرسي والإخوان، فسالت دماء يجب أن تغير دفة آراء كل من يغني "تسلم يا جيش بلادي"، ألم يأن للذين تمردوا أن يفكروا مليا في سؤال مفاده: كيف يسلم من قتل المصريين الركع السجود؟!! كيف يقتل الجيش إخوانه المصريين المسالمين الصائمين الذين يعتصمون بصدور عارية ولماذا؟ هل لعيون أمريكا والحفاظ على أمن إسرائيل الذي استقر برحيل مرسي؟. ألا يعي المتمردون أن إسرائيل هللت للانقلاب واعتبرت السيسي بطلا قوميا؟ ألم يأن لمن اختلفوا سياسيا مع الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي أن ينحازوا إلى الشرعية بعد أن كشفت لهم ولغيرهم خيوط اللعبة، بعد أن سالت الدماء، بعد أن اقتصر الاعتراف بالانقلاب واعتباره انحيازا لإرادة الشعب سوى 5 دول من بين 193 دولة، ألم يأن للمغيبين أن يستفيقوا على عودة أمن الدولة ورجال مبارك من جديد؟! ألم يأن للمتمردين أن يسألوا أنفسهم: كيف وافق شيخ الأزهر والمفتي المنتخب على همجية الانقلابين فى ذبح أبناء مصر المسلمين الصائمين؟! على كل عقلاء مصر من كل اتجاه فكري أو ديني أن يهبوا لإنقاذ بلدهم من هذا الانقلاب الدموي حتى لا يدمر ما بقي من اقتصاد مصر ويطيح بآمالنا فى حرية منحتنا إياها ثورة يناير المجيدة التي أعاد الانقلابيون عقارب ساعتها إلى20 يناير. على كل مصري شريف من المتدينين وغير المتدينين مسؤولية إنقاذ مستقبل مصر. على الجميع أن يدرك أن نهضة مصر وتقدمها لن تتحققا إلا بالحرية لا بالديكتاتورية. الحلف الصهيوأميركي ومن يدور في فلكه من الدول العربية لا يريدون مصرنا إلا دولة متسولة تعيش على الفتات والحسنات التى يجودون بها علينا. يريدون للمصريين أن يكونوا أذلة لبطش أمن الدولة الذي عاد أكثر شراسة بعد انقلاب السيسي. يريدون أن يظل المصريون ضعفاء مستكينين مضطهدين خارج وطنهم. على كل شرفاء مصر رفض الانقلاب، ودعم كل من نزل إلى الميادين بصدور عارية يتصدون بالسلمية لرصاص الانقلابيين، لنمُتْ جميعا واقفين أفضل من أن نترك أجيالنا القادمة تلعن صمتنا وقبولنا بذُل سيزداد ليعاني منه أبناؤنا وأحفادنا. والله كلما رأيت ميداني رابعة والنهضة شعرت أن دولة الحق قادمة تلوح بشاراتها من بعيد.