إن الإنسان وقت الموت لا يتحكم ولا يختار، فهو مفعول به وليس فاعلا، وهو يرضخ ساعتها لما يُفعل به من الله سبحانه، ولكن الله تعالى أمرنا قائلا: "وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" وما دام أن الله أمرنا بذلك فلا بد أن يكون المقصود شيئا نستطيعه ونتحكم فيه، قال الطبرى يعنى (وأنتم مسلمون لربكم، مذعنون له بالطاعة، مخلصون له الألوهية والعبادة) فيكون المقصود أن يختار الإنسان حالته الإيمانية وقت الموت، وبما أن لحظة الموت تترجم بصدق سيرة الحياة كلها، فيكون معنى الأمر أن يعيش الإنسان حياته كلها على الإسلام، فإذا عاش الإنسان حياته كلها وفق منهج الله؛ فإن الحالة العقدية والإيمانية له عند الموت ستكون هى الإسلام، ومن ثم يكون اختيار المرء لطريقة حياته هو الذى يحدد حالته الإيمانية حين موته. والإنسان لحظة موته يخضع لخمسة أمور؛ وهى: الحالة الإيمانية عند الموت، وسبب الموت، وطريقته، وتوقيته، ومكانه. والإنسان لا يمكنه أن يتحكم فى أى من الأمور الأربعة الأخيرة التى ترافق الموت، فكلها غيب فى علم الله. بينما يستطيع التحكم فى الأمر الأول فقط، وهو حالته الإيمانية التى يموت عليها، ولأن هذه الحالة تترتب على سلامة العقيدة، وصحة العبادة، فيمكنه من ثم أن يختار الحالة الإيمانية التى يعيش عليها طوال حياته ويموت عليها، فإذا مات على حالة إيمانية طيبة يكون قد مات على الإسلام. وقد قال سيد قطب: (فمن أراد ألّا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما، وأن يكون فى كل لحظة مسلما). وبالطريقة التى بها تحيا نهارك تحلم بليلك، وكما تعيش ستموت، فمن اجتهد فى طاعة الله، وعمارة الأرض، فإن نهاية حياته لا بد أن تكون طيبة، فالحالة الإيمانية عند الموت تعتمد على قوة إيمان المرء طوال حياته، وتاريخه مع الطاعة، واجتهاده فى العبادة، وسيرته مع الصالحين، وتعتمد كذلك على سيرته مع الضلال، وولوغه فى المعصية، وانغماسه فى الانحراف، وعلاقته بالضالين والمفسدين، فمن الناس من مات وهو يقرأ القرآن، فقد ظل حياته يقرؤه، ومنهم من مات شهيدا، فقد ظل حياته مجاهدا، ومنهم من مات ساجدا، فقد ظل حياته متعبدا، ومنهم من مات مخمورا، أو مات عُريانا، أو مات يهذى، أو مات منتحرا، فكما قضى كل منهم حياته بطريقته مات بحسب ما يتسق معها. إن العدل عند الله مطلق وسرمدى، وهو قائم بين طريقة حياتك وحالتك الإيمانية عند موتك، والعدل يقتضى أنه من يتعب أولا يرتاح أخيرا، والبدايات القوية تفضى إلى نهايات رائعة، والمجتهد من البداية يفوز فى النهاية، ومن ضحك أخيرا ضحك كثيرا، فالطالب الذى يجتهد فى بداية الدراسة، ويبذل جهدا، ويستثمر وقته؛ ليس كالطالب الذى يترك واجباته، ويهمل مذاكرته، ويشغل نفسه، ثم لا يفيق إلا فى أيام الامتحانات نفسها، والإنسان الذى يُسوّف التوبة ويؤخرها كالطالب الذى يهرب من المذاكرة، ويقنع نفسه بسهولتها، وبأنه سينجز ما يريد فى أيام معدودة، فهل يستوى هو ومَن يبذل جهدا حين توجد القدرة؟ أما حديث: "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، فيعنى أن الذى كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم تغير فى آخر حياته، كان عمله ظاهريا فقط، وكان صلاحه لا يستقر فى قلبه، ولم يتأثر قلبه ولا حياته بعبادته، فعلم الله أنه فى آخر حياته سوف يمَلّ من مراءاة الناس، وسوف يكلّ من التمثيل، وسوف يظهر على طبيعته، ويتصرف وفق ما بداخله، وهو الرياء والمنظرة والكذب، ولما علم الله أنه سوف ينهى حياته بما كان يخفيه طوال عمره، فكتب عليه أنه من أهل النار، فعمل آخر حياته بعمل أهل النار، فدخل النار. وأما الذى كان يعمل بعمل أهل النار ثم تغير فى آخر حياته، فقد يكون نشأ فى بيئة سيئة، تشجع على المعصية، وتهيئ الانحراف، فيقع فى المحظور، وهو لا يستطيع أن يقاوم موجة الفساد الطاغية، وأصبح حال العاصين هو الظاهر للناس، ولكنه فى داخله طيب القلب، يندم على أخطائه، ويتحين الفرصة للتوبة، وقد علم الله أنه سينهى حياته بالخير، فكتب له الجنة، فعمل بعمل أهلها فدخلها. والشاهد على هذا "مؤمن آل فرعون" الذى كان لا يظهر إيمانه للناس، ولا يدرك صلاحه أحد، حتى جاءت فرصة الإعلان عن إسلامه حينما "َقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِى الأَرْضِ الْفَسَادَ " فانبرى هذا المؤمن يعمل فى ثلاثة اتجاهات فى الوقت نفسه: فهو أولا يدافع عن موسى، وهو ثانيا يعلن عن إسلامه وإيمانه، وهو ثالثا ينصح قومه ويحذرهم، فكانت النتيجة أن يُقتل شهيدا ويموت مسلما، وتكون هذه هى خاتمته، وقد وصفه الله سبحانه بأنه "رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ". وبلا شك؛ فإن الناس كانوا لا يعلمون شيئا عن إيمانه المكتوم. والشاهد الثانى الرواية الأخرى التى يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، ويعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"، فانظر إلى قوله: "فيما يبدو للناس"، فمن الواضح أن باطن كل منهما كان خلاف "ما يبدو للناس"، والشاهد الثالث حديث الثلاثة الذين هم أول مَن تُسعر بهم النار (شهيد، وعالم، ومنفق) فمع عظم أعمالهم "فيما يبدو للناس" لكن فسدت نياتهم، وأرادوا غير وجه الله. والشاهد الرابع قول ابن تيمية: "ربما عصى الإنسان الله أحيانا وكان فيه من الانكسار والخوف والرغبة الصادقة فى التوبة ما يغلب عليه فى آخر العمر، فيختم له بخير"، فالجزاء يكون على مكنونات الصدور التى لا يعلمها إلا الله، لا على حسب الحالة الظاهرة ولا حسب ما يعلمه الناس، فالناس لا يعلمون إلا ظواهر الأمور، ولا يعلمون بواطنها ولا خفايا الأحوال. وأخيرا فما دام أن الله يأمرنا ألا نموت إلا ونحن مسلمون؛ فيعنى ذلك حتما أننا نستطيعه ونقدر عليه، فحاشا لله أن يأمرنا بما ليس فى مقدورنا، أو أن يطلب منا ما ليس فى إمكاننا، أو يريد منا ما لم يكن باستطاعتنا، ولذلك اقتضت حكمته، واستقر عدله، على أن الذى يعيش مسلما لا يموت إلا مسلما، والذى يعيش طائعا لا يموت إلا عابدا، والذى يعيش عبدا لله لا يموت إلا سيدا للناس، والذى يعيش مجاهدا لا يموت إلا شهيدا، حتى لو مات على فراشه، فالشرط المهم هو الإخلاص والبعد عن الرياء والمَظْهرة، ولذلك يأتى الشاهد الخامس وهو كلام ابن القيم: "حاشا لعدل الله وحكمته أن يُختَم بالسوء لِمَن كان صادقًا ظاهرًا وباطنًا واستقام على ذلك". فالميزان الذى توزَن به حياتك كلها تبدأ نتيجته فى الظهور عند لحظة الموت، وأنت تستطيع التحكم إيمانيا فى تلك اللحظة، فأنت تجنى ثمرة حياتك فى لحظة موتك، وقيامة الإنسان تقوم عند موته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ"، والناس فى الآخرة سيقطفون ثمرة ما قدموا فى الدنيا، وسيحاسبون على ما قدموا دون تزييف أو كذب، ولحظة الموت هى اللحظة الفارقة بين الدنيا والآخرة، وهى لحظة الصدق التى لا كذب فيها ولا تمثيل، وهى اللحظة التى يتحقق فيها ميزان العدل الدائم السرمدى القائم بين طريقة حياتك وحالتك عند موتك، وقد تفضّل الله علينا بأن نختار الحالة الإيمانية التى نموت عليها: "فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ".