"قَصَمَ ظَهْرِى رَجُلان: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ".. كلمات رائعة للخليفة الرابع الراشد على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، يبين لنا أن مصدر الخلل وأساس الهلاك ومنبع الضلال وينبوع الفتن؛ هما صنفان: الأول: وهو العالم بالحق والمعروف بين الخلق بأنه صاحب دعوة وحامل رسالة، وأنه نموذج للعباد الصالحين، وأنه رمز للأخلاق والخير؛ ولكنه ينتهك ما يحمله من خير وما يمثله من رسالة؛ سواء كان سرا أو علانية. والثانى: وهو الجاهل الذى يحاول أن يدلى برأيه، ويمارس سلوكيات أو أعمال دون علم وعن جهل؛ سواء كان يدرى بجهله أو لا يدرى! قاعدة إنسانية عامة: وعلى الرغم من أن ظاهر التغريدة أنها مرتبطة بالعبادة والأخلاق؛ كما يعرف من مقام قائلها رضى الله عنه.. ولكننا عندما نقرأها برؤية كلية عامة؛ نجد أنها قاعدة إنسانية عامة تصف وتلخص إشكالية خالدة؛ فنجدها تتكرر فى كل المجالات الإنسانية والحياتية التى تحيط بنا ونعايشها ليل نهار، فنقابل هذين الصنفين فى أحوالنا الفكرية والإعلامية والسياسية والطبية والعلمية؛ بل التربوية والدعوية كذلك؛ أى أنك ستقابلهما فى كل ما تسمعه وكل ما تشاهده وكل ما تقرؤه فى الشارع وفى العمل وفى المنزل وفى الإعلام وفى كل تجمع بشرى. متنسكون.. ومتهتكون: وما يهمنا الآن هو ما يحدث فى واقعنا السياسى والفكرى والإعلامى؛ نظرًا للعلاقة القوية التى تربطهم، ولظروف تداعيات الثورة.. فنجد المتهتكين من الساسة والمفكرين والإعلاميين يحيطون بنا، ويعلو صوتهم؛ ما بين سياسى يتنقل من منبر إلى منبر ومن حزب إلى آخر، فيقول هنا كلامًا ثم يناقضه هناك، ولا يخجل من أن يبرره بحجة تغير الظروف، والمعادلات السياسية؛ ولو صدق لقال لتغير هواه! ونجد المتنسكين منهم؛ وقد وسموا أنفسهم بألقاب تصدمنا ليل نهار: فهذا خبير أمنى، ونظنه كان يعمل مرشدًا أو مخبرًا لأمن الدولة، وهذا ناشط سياسى؛ لأنه ينشط حسب ما يدفع له، أو حسب الفاتورة، وهذا ناشط حقوقى؛ لأنه ينشط حسب مواسم ومعدلات التمويل الخارجى لمنظمته الحقوقية، وهذا خبير إستراتيجى؛ لأنه قرأ كتابًا من على سور الأزبكية فى الإستراتيجية، وهذا ثائر، وذاك خبير إعلامى..! كما قال الشاعر ابنُ رشيق: مما يزهدنى فى أرض أندلس *** أسماء مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة فى غير موضعها *** كالهر يحكى انتفاخًا صولة الأسد خروق فى ثوب القضاء والساحة القضائية لم تسلم أيضًا من المتهتك والمتنسك؛ فكل يوم نصطدم بأحكام قضائية؛ أقل ما يقال حولها إنها مسيسة أو مجرد تصفية لحسابات أو كيدية، ونظرًا لخطورة هذه الفئة المجتمعية؛ فإن المصير كان قاسيًا وجادًّا وحاسمًا؛ فهو جنة أو نار: ((القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة: قاض عرف الحق فقضى به فهو فى الجنة، وقاض عرف الحق فجار متعمدًا فهو فى النار، وقاض قضى بغير علم فهو فى النار)). [فهرس مستدرك الحاكم - كتاب الأحكام - هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم -7012]. كيف النجاة؟ لهذا كان من الحكمة الإلهية أن يردد المسلم دعاءً بليغًا، ويكرره مرارًا فى كل ركعة يحذره من هذين الصنفين: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ". [الفاتحة: 6 و7]. أى "وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل، ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته، فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم، فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه، أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه، إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين". [فى ظلال القرآن: سيد قطب]. فالخطورة تأتى عندما نفتقد المعرفة، أو عندما نمتلك المعرفة ولكن سلوكنا الظاهرى يخالفها، فلا بد من امتلاك المعرفة مع امتلاك السلوك الذى يترجمها على أرض الواقع بأمانة، والنجاة هى أن نسير فى طريقنا المستقيم، ونتجنب هؤلاء المتهتكين أو المتنسكين.