الإمام البَنَّا -كما قال قادة المسلمين وغيرهم- رجلٌ ملهمٌ موهوبٌ صادقٌ فى دعوته أمينٌ عليها، وحين نقول ذلك لا نُقَدِّس الإمام البنَّا، بل نُحِبُّه ونحترمه، كما نحبُّ غيره من الصالحين المؤمنين الذين يدعون إلى الله تعالى بصدق، وفرق بين الاحترام والتقديس، وكل ما قاله الإمام البنَّا كان يفهمه من القرآن الكريم ومن السنَّة النبوية المطهَّرة، ومن عمل السلف الصالح، فكان مُتَّبِعًا بحقٍّ وكان مُلهمًا موهوبًا بصدق، وكان موفقًا مُسدَّدًا لقى ربه شَهِيدًا، مكانه إن شاء الله تعالى تحت ظلِّ العرش رضى الله عنه وأرضاه. وإذا كانت الفتوى تقدَّر مكانًا وزمانًا وشخصًا، فمن باب أولى نظريات العمل الإسلامى المعاصر، وإذا لم يكن كل إنسان مرشحًا للفتوى، فمن باب أولى قضية طرح نظريات العمل الإسلامى المعاصر. وإذ هو فى حكم الثابت أنه لم تتوافر فى إنسان معاصر مجموعة الصفات التى تحققت فى حَسَن البَنَّا، فإنه رحمه الله يكاد يكون وحده هو المُرشَّح لطرح نظريات العمل الإسلامى المعاصر، وقد تمَّ ذلك الخير والحمد لله. وإن هذا ينبغى أن يأخذ عندنا طابع البديهية، على أن ذلك لا يعنى العصمة لحَسَن البَنَّا رحمه الله، ولا يعنى أيضًا عدم ملاحظة الزمان والمكان، ولا يعنى كذلك عدم مراعاة احتياجات المرحلة، ولكن هذا شىء وأن يأخذ كل أخٍ لنفسه حق النقض للبناء الذى أقامه البنا، وأن تسير الجماعة بعيدة عن أضواء البنَّا شىء آخر، فالدراسة المستفيضة مع الثقة المطلقة مع القرار من الجماعة ومؤسَّساتها الرشيدة هى وحدها التى يمكن أن يتم بها شىء من تعديل لنظرية ما طرحها الإمام الشَّهِيد رحمه الله، وأبعد ما طُرِح فى يوم ما؛ فكرة التعارض بين خطِّ سَيِّد قُطْب رحمه الله وخط البَنَّا رحمه الله، وكأنَّ هناك خطين متعارضين، أو أن هناك خطًّا يلغى الآخر. إن خط سيِّد قُطْب مُكَمِّلٌ لخطِّ البنَّا وليس معارضًا له، كل ما فى الأمر أن (الأستاذ سيد) عمَّق هذا الخط وأعطاه مداه فى بعض الأمور، والأستاذ البنَّا هو البناء، وهؤلاء الذين يزعمون التضاد بين الخطين يصل بعضهم أن يجعلوا من سيد قطب رحمه الله إمامًا فى الفقه والتوحيد ومفتيًا فى كل شىء.. وهو رحمه الله تعالى لم يُرِد ذلك كله، ولم يضع نفسه هذا الموضع. نقول هذا ونحن نعلم مقدار الظلم الذى يوقعه كثيرون من الناس على تُراث الأستاذ سَيِّد، ولكن المهم دائمًا هو وضع الأمور فى مواضعها والبُعْد عن الغلو، سواء فى الأفكار أو فى الأشخاص. يبقى حَسَن البَنَّا -رحمه الله- واضع نظريات العمل الإسلامى، فهو الذى طرح فكرًا قابلا للاعتماد وقابلا للتطبيق، قابلا لأن يأخذ بيد المسلم من البداية إلى النهاية، وبيد المسلمين كذلك من البداية إلى النهاية بتوفيق الله عز وجل، وهذا يؤكد أن الأستاذ رحمه الله مُجَدِّد هذا العصر؛ كما أجمع على ذلك كل من تحدَّث عنه عن معرفة وإنصاف، ولعله من خلال التجربة يظهر أن أى فكر معاصر لا يُغْنى عن فكر الأستاذ البَنَّا رحمه الله، ففكر الأستاذ البنَّا فكرٌ شاملٌ يسع كل احتياجاتنا، ولئن أبرز بعض إخوانه بعض القضايا فذلك لا يُغْنِى عن الأساس ولا عن الشمول فى كل جوانب السير. ومن ذلك كله يتَّضح أن لحَسَن البَنَّا -رحمه الله- فضلا على كل إنتاج أنتجه فرد من أفراد الجماعة فى لحظة من اللحظات؛ حيث يبقى الفضل الأول لباذر البذور ومُتعهِّدها، وما من إنسانٍ من تلاميذ البنَّا كتب أو وجَّه أو أبرز إلا والأستاذ البنَّا صاحب الفضل فى ذلك، والفضل أولا وأخيرًا لله عز وجل. لقد جاء الأستاذ البَنَّا والمسلمون فى وضع قلقٍ يندفعون فى كل سبيل فيقدمون التضحيات الكثيرة ويقدمون الضحايا الكثيرة، ولكنها اندفاعات أقل من احتياجات العصر، ومن درس مجموع الثورات الإسلامية فى هذا العصر من ثورة الشيخ شامل النقشبندى فى تركستان إلى ثورة الشيخ سعيد الكردى فى تركيا إلى ثورة الشيخ عِزِّ الدِّين القَسَّام فى فلسطين، إلى سير المسلمين فى الهند نحو باكستان فإنه يجد فى هذا كله وغيره القصور عما يحتاجه العصر للوصول إلى انتصار إسلامى شامل وكامل، بينما نرى فى كلام الأستاذ البَنَّا المكافأة لروح العصر للوصول إلى انتصار للإسلام مكافئ للعصر وشامل وكامل بإذن الله سبحانه. وهؤلاء إخوانه وأبناؤه يستمرُّون على السير رغم كل الظروف الصعبة، ويزدادون قوةً وصلابة بفضل الله تعالى. ومن يتأمَّل واقع المسلمين الحالى يجد أنه وصل نَفَسُ الأستاذ البنَّا فثَمَّ حيوية للإسلام والمسلمين، وحيث انعدم وصول هذا النفس نجد استسلامًا رهيبًا للقوى العالمية المعتدية، وللقوى المحلية الظالمة، وسيأتى يوم يرى فيه إن شاء الله تعالى قارئو تاريخ هذه الأمة بالوثائق أن بقية الحياة فى هذه الأمة تمثَّلت فى دعوة الإمام البنَّا وتلامذته، وأن بداية السير المتصاعد الجديد لهذه الأمة بدأت بالأستاذ البنَّا، ولقد استطاع رحمه الله أن يوائم فى السير الإسلامى المعاصر بين الحكم الشرعى واحتياجات العصر، وبين التطلعات العليا للمسلم والنظرة الواقعية لمقتضيات السير، وبين كمال التربية والتعليم والتنظيم والعمل السياسى والاقتصادى، إلى غير ذلك مما يغطى كل احتياجات المسلمين، فوضع لوازم ذلك وحرَّر الإرث الإسلامى من الدَّخن الذى لحق به. إننا لا نرضى لأنفسنا أن ننطلق بعيدًا عن سير الأستاذ البنا؛ لأن التفريط فى ذلك تفريط فى السَّير الصحيح لنصرة الإسلام فى هذا العصر. فلا ينبغى أن تستخفَّنا سطحية بعض الأمور، ولا أن نستعجل فى تحليل بعض الظواهر، ولا أن تغيب عنا حقائق الأحداث، فإن السَّير دون الإسلام يبقى قاصرًا، بل حامل فى طياته عوامل نهايته. ولقد قال الإمام: "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التى تحاول هذا، أو من الفئة التى تدعو إليه على الأقل إلى قوَّةٍ نفسيةٍ عظيمةٍ تتمثل فى إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غَدْر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره". أترى أن مثل هذا الكلام يصلح غيره لتأسيس عمل إسلامى معاصر؟ أو ترى أن مثل هذا الكلام يجوز أن يُفرِّط فيه إلا جاهل بالقيمة الحقيقية للأشياء؟.. وإن الجماعة فى الإطار الذى أقامها به الأستاذ البنَّا رحمه الله قادرة على استيعاب المسلمين جميعًا، فما من مسلم إلا ويشعر أن فى الجماعة ما يطمح إليه من كمال وزيادة، وما من مجموعة إلا وترى فى الجماعة أن ما تحرص عليه من خير غير مغالية فيه موجود وزيادة، وبهذه الكمالات التى أقام بها الأستاذ البَنَّا الجماعة كانت مستوعبة مستقطبة؛ إذ استطاع الأستاذ رحمه الله أن يأخذ الخير؛ حيث كان محررًا إياه من دخنه، فاجتمع فى الجماعة الخير كله محررًا من الدخن الذى لحق به. مثل هذا الكمال فى كل شىء نحن نحتاجه على أن يكون ذلك كله لله وحده، وفى الله وحده، وبالله وحده. إما هذا، وإما أن يغرقنا غيرنا أو يغرق كل جزء منا صنف من الناس، وباستكمالنا كمالاتنا نكون حُجَّة على خلق الله بدين الله، وعلى المسلمين فيما ندعوهم إليه، وبذلك وحده نستطيع أن نحمل عبء السير إلى أن تكون كلمة الله هى العليا فى عالم يسيطر عليه الانتهازيُّون. وطريقنا الوحيد فى هذا كله هو السير على الأسس التى وضعها الأستاذ البَنَّا؛ مستلهمًا خُطاه من نور الوحى وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، "واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ" (الأحزاب: 4). والله أكبر ولله الحمد.