أخرج أحمد وغيره عن أبى أمامة رضى الله عنه: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ (أى من شدة وتعب) حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ». نذكر هذا الحديث الشريف ونحن فى شهر رجب الحرام الذى دخل فيه القائد المظفر صلاح الدين الأيوبى وجنوده المؤمنون القدس الشريف وحرَّروا بيت المقدس بعد معركة حطين سنة 583 ه، ونحن أيضا فى شهر مايو الذى أعلنت فيه العصابات الصهيونية المجرمة إقامة دولة الكيان الصهيونى سنة 1948م، وعلى بُعد أيام من شهر يونيو الذى سقطت فيه القدس بيد الصهاينة فى السابع من يونيو 1967م إبان الهزيمة المرة للنظام العربى فى 5 يونيو 1967م، وما بين النصر والهزيمة، وما بين الارتفاع والهبوط؛ تتأرجح مشاعر الأحرار المخلصين، وتتعلق الآمال بفتح قريب، يعود فيه الحق للظهور، وتعود فيه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، وتنتظر قلوب المحبين بلهفة قوية لحظة الدخول إلى ساحات الأقصى المحرر فى ظلال دولة فلسطين الحرة المستقلة، وإلى أن يتحقق هذا الأمل المنشود فإن الأمة لا بد أن تعيش مع قضيتها الكبرى قضية فلسطين والأقصى، وأن تتوارث الأجيال الإيمان بهذه القضية والعزيمة فى العمل لها والهمة فى الانتصار لها، لتكون من الطائفة المنصورة، الظاهرة على دينها، القاهرة لعدوها، الصابرة على كل لأواء تصيبها، لتكون الطائفة التى بدت طلائعها ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، حيث المجاهدون من أبناء القسام والياسين والرنتيسى والمقادمة وفتحى الشقاقى وغيرهم فى فلسطين، والمجاهدون القابضون على الزناد العاضون على الجراح الواثقون بالنصر فى أرض الشام، وغيرهم من المجاهدين فى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. أهمية المسجد الأقصى عند المسلمين لقد ارتبطتْ قُدسيَّةُ المسجدِ الأقصى المباركِ وما حوله من أرض فلسطين والشام بالعقيدةِ الإسلاميَّةِ منذ أن أُسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وعُرِج منه به إلى السماواتِ العلى، وقد خلَّد القرآنُ هذا الحدَثَ العظيمَ فى سورةٍ سُمِّيتْ به، هى سورةُ (الإسراء)؛ حيث افتتحها سبحانه بقوله ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1). وتعزَّز هذا الارتباط منذ أن كان المسجدُ المباركُ القبلةَ الأولى للمسلمين، قبل أن يتحوَّلوا إلى الكعبةِ ويتخذوها قبلَتَهم بأمرِ الله عز وجل، فاعتُبر أولى القبلتين، وقبل ذلك كان هذا المسجدُ الشريفُ ثانى مسجدٍ بُنى على الأرضِ، بعد المسجدِ الحرامِ، فعُرف بثانى المسجدين، فعن أبى ذَرٍّ رضى الله عنه قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَى مَسْجِدٍ وُضِعَ فى الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟! قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَال: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ» (متفق عليه)، ثم ربط الرسول صلى الله عليه وسلم مكانته بالمسجد الحرام ومسجد المدينة، فاشتُهر بأنه ثالث الحرمين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» (متفق عليه)، وعن أبى سَعِيدٍ الْخُدْرِى رضى الله عنه عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِى» (متفق عليه). وجعل النبى صلى الله عليه وسلم الصلاةَ فيه أعظمَ أجرًا من الصلاة فيما سواه من المساجد غير المسجد الحرام والمسجد النبوى، فجعل الصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه، فعن أَبِى الدَّرْدَاءِ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ، وَالصَّلاةُ فِى مَسْجِدِى بِأَلْفِ صَلاةٍ، وَالصَّلاةُ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاةٍ» (أخرجه الطبرانى وقال الهيثمى: رجاله ثقات، وفى بعضهم كلام). اهتمام المسلمين على مرِّ التاريخ بالمسجد الأقصى وبيت المقدس وفلسطين حين أمر اللهُ المسلمين بالتحوُّلِ من بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ المشرَّفةِ أدرك المسلمون أنَّ عليهم استنقاذَ القبلتين، فبذلوا المُهَجَ والأرواحَ، حتى فتح الله عليهم مكَّةَ، ودخل الناسُ فى دينِ الله أفواجًا، ثم وجَّهوا همَّتَهم لاستنقاذِ القبلةِ الأولى، وكان الفتحُ العُمَرى لفلسطين ولبيت المقدس عام 15ه هو حجرَ الأساسِ لانطلاقةِ بناءِ المسجدِ الأقصى المباركِ؛ حيث سار الخليفةُ الراشدى عمرُ بنُ الخطاب رضى الله عنه إلى المنطقةِ المباركةِ، وزار موقعَ الصخرةِ المشرَّفةِ التى كانت قد طُمِرت تحت الأتربةِ والنفايات، وأمر بتنظيفِها، كما أمر بإقامةِ مسجدٍ فى الجهةِ الجنوبيةِ منها، ثم نُفِّذ مشروعُ تعميرِ منطقةِ المسجدِ فى عهدى الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان وابنه الوليد. وظلَّت فلسطين والمسجدُ الأقصى مع المدينةِ المباركةِ تحت إمْرَةِ المسلمين يتعهَّدونه بالرعايةِ والعنايةِ، حتى سقط عام 493ه فى أيدى الصليبيين، الذين استغلوا ضعفَ الخلافةِ، وتفكَّك الوحدةِ الإسلاميةِ، وتنازُعَ الأمراءِ، وغلبةَ الأهواءِ على المسلمين، واستمرَّ الاحتلالُ الصليبى حوالى تسعين عاما هجريةً، حتى حرَّره القائدُ صلاحُ الدين الأيوبى الذى حلف ألاَّ يبتسمَ حتى يحرِّره، وكان له ما أراد عام 583 ه، وقام صلاحُ الدين بإعادةِ ترميمِه وإصلاحِه وتجديدِ وتزيينِ محرابِه، وقامتْ فى ساحاتِ المسجدِ وحوله مدارسُ ومكتباتٌ ودورٌ لحفظِ القرآنِ ودراسةِ علومِهِ ودورٌ للحديثِ النبوى الشريف ودراسةِ علومِ السُّنَّة. وعادت فلسطين عربية إسلامية حتى قام الاستعمارُ الغربى الذى عمَّ الأقطارَ العربيةَ والإسلاميةَ فى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بزرعِ الكيانِ الصهيونى فى جسدِ فلسطين، ثم تَمَّ الاعترافُ الدولى الظالمُ بما سُمِّى بدولةِ إسرائيل عام 1948م، وتم تشريد ملايين الفلسطينيين فى مخيمات داخل وخارج بلادهم، وفى الشتات، ثم فى ظل أنظمة الاستبداد العربى قام الكيانُ الغاصبُ باغتصابِ القدس عام 1967م مع ما تبقى من فلسطين وبعض الأراضى المصرية والسورية، ثم كانت المحاولةُ اليهوديَّةُ الآثمةُ لحرق المسجد فى 21 أغسطس 1969م على يَدِ شابٍّ يهودى يُدْعَى مايكل روهان، ثم تمَّ إعلانُ ضمِّ القدسِ سياسيًّا إلى دولةِ الاحتلال الصهيونى سنة 1980م، وتوالتْ محاولاتُ قطْعاِن المغتصبين الصهاينةِ المدعومين من دولةِ الاحتلالِ للإساءة للمسجد المبارك فى غفلةٍ عجيبةٍ من المسلمين، بدت فى بعض الأحيان تواطؤًا من أنظمة فاسدة مستبدة مع الكيان الصهيونى الغاصب. لقد أكد هذا التاريخ أن فلسطين والمسجد الأقصى دائما كانا عنوان عز الأمة أو ذلها، وعلامة نهوضها أو سقوطها؛ فحيث كانت الأمة قوية موحدة مستمسكة بدينها وهويتها تكون فلسطين حرة، ويكون المسجد الأقصى عزيزا، وحيث أخلدت الأمة إلى الأرض وتفرقت بها الأهواء وغلبت عليها الشهوات وقعت فلسطين تحت الاحتلال ورسف الأقصى فى قيود الأسر. ومع تنامى الصحوة الإسلامية وظهور الربيع العربى المبارك عاد الأمل قويا فى استعادة القدسوفلسطين لعالمها العربى والإسلامى، رغم كل المحاولات الصهيونية الفاشلة بإذن الله تعالى. محاولات تهويد القدس منذ بدأت العصابات الصهيونية فى التوافدِ على فلسطين وهى تضع الخططَ وتبذل الجهودَ الجبارةَ لتهويدِ المدينة المباركة، وتهجير الفلسطينيين منها بشتى الطرق غير المشروعة، فمن ذلك: - أنهم أصدروا تشريعًا يُسَمَّى (قانون الغائب) يقضى بأن مَنْ يتغيَّب من الفلسطينيين عن منزله من 8 إلى10 سنوات تتم مصادرةُ أرضِه وبيتِه لسلطاتِ الاحتلال، ثم كانوا يستغلون خروج الفلسطينى لغرض العلاج أو زيارة الأقارب أو غير ذلك ليمنعوه من الدخول حتى تمر المدة المذكورة فيصادروا داره وحقه فى العودة. - وتوسَّعوا فى إنشاء المغتصبات الضخمة لتسكين عشرات الآلاف من الصهاينة داخل وحول المدينة المباركة، ولا تزال مخططاتهم الاستيطانية متواصلة رغم كل المحاولات الأممية لإدانتها، وعسى الله أن يحعلها ميراثا لأصحاب الحق والأرض الفلسطينيين إن شاء الله تعالى. - وتوسَّعوا فى حَفْر الأنفاقِ فى المنطقةِ القريبةِ من المسجد، إلى الحدِّ الذى صار يُخْشَى منه على انهيارِ المسجد الأقصى قريبًا، بل قد انهارت بالفعل بعضُ ملحقاته. - ولما أعيتهم الحِيَل فى إيجاد أيَّة آثارٍ تُشير لما يزعمون من تاريخِ اليهودِ فى هذه البلادِ المباركةِ انطلقوا فى تزويرِ الحقائق، ويدَّعُون بوقاحةٍ أنَّ بعضَ الآثارِ الإسلاميةِ والعربيةِ القديمةِ هى آثارٌ يهوديةٌ؛ ظلمًا وزورًا. - وأقرب حلقات التهويد وربما لا تكون آخرها: رفع الأعلام الصهيونية فوق المسجد الأقصى المبارك، ومن قبل ذلك محاولة الصهاينة هدم باب المغاربة، تلك المحاولة الأثيمة التى تريد سلطات الكيان الصهيونى الغاصب إنجازها فى ظل انشغال العرب والمسلمين بمشاكلهم الداخلية وانشغال الفلسطينيين بإنجاز التصالح الداخلى بين الفصائل المختلفة، ولا يقتصر مخطط باب المغاربة على هدم طريق باب المغاربة، بل يشمل بناء جسر عسكرى يمهّد إلى اقتحام أعداد كبيرة من قوات وآليات الاحتلال، ولاقتحامات واسعة النطاق ومتكررة للمغتصبين الصهاينة للمسجد الأقصى المبارك، لخدمة مخطط تقسيم المسجد بين المسلمين واليهود، على غرار المسجد الإبراهيمى فى الخليل. - كما يشمل المخطط استكمال تهويد ساحة البراق التى حولها المغتصبون الصهاينة سابقا إلى معلم دينى لدولتهم، وطمس باقى المعالم الاسلامية فى البلدة القديمة فى القدس، بل وربط الساحة التى ترتبط برحلة الإسراء بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم بالمغتصبات التى تسمى بالبؤر الاستيطانية المحيطة بالقدس. كل هذه التحديات تطرح علينا السؤال الضرورى عن واجبنا نحو فلسطين والمسجد الأقصى فى ظل كل تلك المخاطر؟ وللحديث بقية...