قال الإمام ابن قيم الجوزية –رحمه الله- فى كتابه القيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين": "أحكام الدنيا تجرى على الإسلام، وأحكام الآخرة تجرى على الإيمان"، وهى تعنى أن كل ما يترتب من أمور تبدو صحيحة شكلا فى قوانين الناس، أو تستوفى الشكل الشرعى دون الجوهر الحقيقى ديانة فتكون باطلة عند الله، وفى الدار الآخرة، مثل من يُظهر الإسلام ويبطن الكفر فسيعامَل بين المسلمين كمسلم، لكنه فى الآخرة سيُحشر مع الكافرين أو المنافقين، وقد أظهر الإسلامَ عبدُ الله بن سبأ اليهودى الذى أسس الفتنة بين سيدنا على رضى الله عنه والصحابة، وادعى بعض صفات الألوهية للإمام العابد على رضى الله عنه، ولا يزال غلاة الشيعة من الإسماعيلية والعلويين والجعفرية يعتقدونها إلى اليوم، ويقولون بقوله، ولو تركنا جانب العقيدة لأن الميل فيه كفر، إلى الجوانب الفقهية لأن الخطأ فيه أجر كما فعل الإمام أبو حنيفة النعمان لما بدأ حياته العلمية بعلم العقيدة -وكانت تسمى الفقه الأكبر- فقال: "أترُك الفقه الأكبر إلى الفقه الأصغر"؛ لأن الفقه الأكبر الخطأ فيه كفر، أما الفقه الأصغر فالخطأ فيه أجر، وهذا طبعا مشروط بعدم القصد إلى الخطأ. ما يشغلنى هنا هو ما يبدو أنه صحيح قانونا فى نهب الأموال، وهو باطل ديانة فى الواقع المصرى بعد الثورة بل دول الربيع العربى، وإن شئت فقل كل دول العالم، فمثلا صيغت القوانين فى الضرائب بحيث تكون فيها ثغرات تسمح بالتهرب وسمى بالتهرب القانونى، وصديقتها قوانين مجالس الإدارات للشركات الكبرى على أن للسادة أعضاء مجلس الإدارة مكافآت تزيد فى السنة عن المليون أو الملايين، بينما لا يزيد مرتب العمال المطحونين عن 150 جنيها، وقد قابلت عاملا لم يثبَّت فى الأوقاف منذ عشر سنوات، وراتبه 95 جنيها يعنى 12 دولارا فى الشهر، بينما يرى قوم ممن يمثلون مراكزهم الوظيفية وفقا للقانون الماضى قبل الثورة، حيث يحصل رئيس مجلس الإدارة على ما فوق المليون مكافأة 6 أشهر فى شركة، أحتفظ بذكر اسمها، بينما حصل رئيس مجلس إدارة هيئة عامة لها مساهمة فى الشركة إياها ب9% فى الشركة، وطبعا الهيئة مشتركة فى عشرات الشركات، وتتضاعف المكافآت، على كلٍّ حصل رئيس الهيئة من شركة واحدة على مبلغ 680 ألف جنيه، وبعد الضرائب وصلت بالضبط إلى 539 ألف جنيه على أربع جلسات فى ساعتين، يعنى الساعة بستين ألفا، وهو أكثر من الحد الأقصى الذى صدر به القانون فى مجلس الشورى، ويتحداه كل بقايا النظام السابق، وكأنهم فى صراع مع الوقت؛ كى ينهبوا بأقصى جهدهم قبل أن تستقر الدولة فتطبق قوانين العدالة الاجتماعية التى تجرِّم أن يصل أى شخص فى منصب كبير على أكثر من 25 ضعف أى موظف صغير، ولهذا يلعن بقايا ومنتفعو النظام السابق الثورة والثوار والانتخابات ومرسى والشورى والإخوان والأحرار؛ لأن الموضوع هو أن مليارات تذهب لجيوب الكبار، ويضيع معهم الصغار، وتتأكد نظرية الحوت الكبير الذى يبلع السمك الصغير فى كرشه العريض، لكن هذا الترتيب و"التستيف" القانونى من ترزية القوانين فى نهب المال العام لا يصح عند الله ديانة؛ للأدلة التالية: ومن ثم أقول لمن بقيت فيه بقية من خشية الله: أدِّ المال وربحه فى كل مبلغ أخذته بحكم منصبك من هدايا ومكافآت فوق العادية مما تحيك فى صدرك، فإن كان القلب قد عمى وصار ينهب بالجملة دون وخز الضمير فلتكن الثانية وهى الخوف والتردد إن عرف الناس، وعندى يقين أن العمال المطحونين الذين يكافحون سنين طويلة كى يصل راتبهم ومكافآتهم إلى الكفاف أو الكفاية لن يرحموا واحدا من رؤسائهم إذا علموا كم حصلوا على مكافآت من وراء عرقهم وكَدهم، ثم من وراء ظهورهم فى الحيل القانونية، أو القوانين التى فصَّلها من جاءوا بالتزوير حتى من أصوات الموتى الذين دأب النظام السابق على إحيائهم يوم الانتخابات كى يصوِّتوا لهم، والله تعالى يقول عن الآخرة: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88-89). إننى أستحث كل من بقيت فى قلبه إشارة من نور الفطرة أو ومضة من نور الإيمان، أن يؤدى المال وربحه الذى ظفر به بشكل قانونى، نصا أو تأويلا مما لا يطمئن إليه قلبك، أو تخشى أن يعرفه عموم الناس، فبادر طواعيةً قبل أن يفاجئك الموت، فتقول حين ترى العذاب "رَبِّ ارْجِعُونِ"، فها أنت فى دار التوبة والعمل، وغدا دار حساب ولا عمل، ولا ينفع الندم "ولات حين مندم"، ولا تنس أن العذاب يلاحق الإنسان حتى لو كان المأخوذ شيئا يسيرا ولو كان سواكًا؛ لما رواه مسلم بسنده عن أبى أمامة الباهلى أنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه، فقد أوجب اللهُ له النارَ، وحرم عليه الجنةَ، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا، يا رسولَ اللهِ؟ قال: وإن قضيبًا من أراكٍ". يا ويله وسواد ليله من لم يردَّ المال الحرام أو تحوم حوله الشبهات من استمراره وتركه المال الحرام؛ ليزداد أبناؤه به فسادًا، فتكون جنايته مضاعفة على نفسه وأهله وأولاده معا.. ونصيحة لكل زوجة أو ابن أو بنت توفى عائلُهم وكانت أمواله ودخوله أكثر مما يطلع عليه الناس، أن يردوا المال أو يتصدقوا به؛ تخفيفا عن عائلهم الذى يعذب فى قبره بسبب سلبه ونهبه، وقبوله ما ساغ قانونا وقضاء، وبطل أخلاقا وديانة.