* فيلم "بوريفاج" الهولندى جدد إضراب عمال مناجم بلجيكا بعد الاستعانة بعدد منهم فى توثيق الحدث بدأ صنّاع الأفلام الوثائقية مع نهايات القرن العشرين يفكرون فى تجريب تكنيك جديد فى إخراج أفلامهم؛ حيث كان المعتاد فى صناعة الأفلام الوثائقية أن يكون الأساس فيها قراءة لأحداث وقعت فى وقت ماض مع التعليق على تلك الأحداث، سواء أكان ممن عايشها أو تعمق فى دراستها، ومن الممكن أن يصحب هذا العمل تعليق صوتى على بعض المشاهد التى تمكن المخرج من الحصول عليها والتى تم تصويرها فى أثناء حدوثها. فكانت الفكرة بأن يتم تصوير بعض المشاهد التمثيلية المشابهة للحدث الذى لم يتمكن المخرج من الحصول على تصوير له أو كون الحدث قد تم بالفعل قبل اختراع السينما وبدأ المخرجون فى دمج مثل هذه المشاهد وسط أفلامهم التقليدية لتعطى حيوية أكثر للأفلام، وذلك بكسر رتابة الإيقاع المتبع مع الأفلام ذات الأسلوب القديم. وبعد أن أثبتت هذه التجربة نجاحها بدأ التفكير فى عمل أفلام وثائقية للأحداث التى وقعت فى الماضى دون تدخل أو تعليق، ولكن بأن يقدم الحدث بشكل درامى كامل فيما يشبه أجواء الحدث وبنفس ملابساته بتجسيد شخصيات الواقعة التاريخية وفى أماكنها. وقد يظن البعض سهولة صناعة مثل هذه النوعية من الأفلام، ولكن هى على العكس؛ فهى أشبه بصناعة فيلم تاريخى ضخم يحتاج لأموال طائلة وعمل دءوب بداية من التحضير وكتابة السيناريو الذى يتطلب جهدا كبيرا من الكاتب؛ لأن عليه أن يكون حياديا وعليه الاطلاع على كل وجهات النظر التى كتبت عن الحدث ليخرج بقراءة موضوعية له ليكتبها على الورق، كما يأتى بعد ذلك اختيار أماكن التصوير والذى يجب أن يكون مطابقا لمكان وقوع الحدث وفى بعض الأحيان يمكن استخدام المكان الحقيقى إذا كان موجودا وفى كثير من الأحيان يتم إقامة أماكن التصوير كما جاء فى الروايات، وهو ما يعد تكلفة مضاعفة إلا أن دخول التكنولوجيا والجرافيك إلى السينما عمل على تخفيض مثل هذه التكاليف باستخدامها فى إنشاء مثل هذه الأماكن وتركيبها مع المشاهد الممثلة بواسطة تقنية "الكروما". ويأتى تجهيز الملابس فى المرحلة التالية، ولكنها أقل المراحل صعوبة ليبدأ تصميمها من قبل متخصصين فى الملابس التاريخية ثم منفذين لها ثم يجرى التصوير ويتبعه المونتاج فى محاولة لإخراج المشاهد بشكل متوازن دون وضع وجهة نظر فيها. وهناك الكثير من إشكاليات التعريف بهذا المصطلح وذكرت إحدى الموسوعات السينمائية تعريفا للدوكودراما بأنها عبارة عن فيلم أو برنامج تلفزيونى يجمع ما بين حقلى الوثائقى والدرامى ويطلق البعض على الدوكودراما تسمية الدراما غير الخيالية التى تلقى الضوء على أحداث حقيقية وأشخاص حقيقيين وتقدمهم بطريقة درامية بينما تورد موسوعة أخرى مواصفات لهذه النوعية من الأفلام، أحدها التوجه لمقاربة الوقائع كما هى دون اللجوء إلى التعليق؛ بالإضافة إلى استخدام تقنيات تساعد على إضفاء حياة على الأحداث التى تجرى معالجتها؛ فمثلا بدلا من القول إن (س) من الناس تحدث مع (ج) من الناس، فإن الدوكودراما تقوم على إعادة تجسيد هذه المحادثة. وتجمع التعريفات على ربط الدوكودراما بإعادة تجسيد وقائع تاريخية أو بتعبير أدق وقائع حدثت قبل عملية تصوير الفيلم؛ إما قبل زمن طويل وإما حدثت قبل وقت قصير من بدء التصوير، وكان من الضرورى إعادة خلقها وتجسيدها ضمن بنية الفيلم. ومن الأمثلة الشهيرة على عملية إعادة الخلق والتجسيد هذه، ما فعله المخرج التسجيلى الهولندى يوريس إيفنس فى فيلمه "بوريفاج" حيث تروى قصة إضراب عمال المناجم فى بلجيكا وخطط المخرج أن يعيد للحياة مظاهرة عمالية كانت قد وقعت فى الماضى فبحث عن قدامى العمال الذين اشتركوا فى تلك المظاهر وأشركهم فى الفيلم وجعلهم يعايشون من جديد أمام عدسة الكاميرا ذات الأحداث التى شاركوا فيها سابقا. ومن الأمور الطريفة فى تجربة فيلم "بوريفاج" من هذه الناحية أن المظاهرة التى أعاد المخرج خلقها تحولت إلى مظاهرة حقيقية؛ لأنه فى الوقت نفسه كان يجرى إضراب عمالى، مما جعل العمال يتملكهم الحماس وينسون أنهم يعيدون تجسيد حدث ماض بالكاميرا وبطلب من المخرج. كما أن الدوكودراما ترتبط ارتباطا وثيقا بوجود العنصر البشرى فى دور رئيسى فى الفيلم وبإعادة تجسيد بعض اللحظات أو الوقائع الحياتية التى حدثت فى وقت سابق وثمة حاجة لإحيائها وهذا يأتى من مفهوم الدراما بشكل عام حيث إن الدراما ما هى إلا نتيجة صراع أحد أطرافه الإنسان، ولا تتحقق إلا من خلال العنصر البشرى وضمن شكل يجرى خلاله تجسيد الوقائع من خلال الممثلين وتقديمها إلى جمهور من الناس بواسطة وسيط فنى. وقد أوضح السينمائيون الغربيون الفرق بين مصطلح الدوكودراما (الدراما الوثائقية) ومصطلح الوثائقى الخيالى وهو يرتبط بالتصوير الراهن للحدث ولكن مع دمجه مع عناصر روائية سردية وإصباغ رؤية فنية وأسلوبية على الفيلم بمجمله إلا أن السينمائيين العرب يستعملون مصطلح الدوكودراما ليشمل النوعين أى يشمل الدرامى الوثائقى مع الوثائقى الخيالى ويستخدم تحديدا فى تعريف الفيلم التسجيلى دون الفيلم الروائى وذلك على العكس مما هو مستخدم من قبل صناع السينما العرب. ويتضح من خلال تعريفات مصطلح الدوكودراما أنها لا تقصره على الفيلم التسجيلى كنوع متميز؛ بل كما نجد فى تعريفاته باللغة الإنجليزية فهو يشمل حتى الأفلام الروائية الواقعية التى تستفيد من المنهج التسجيلى فتعيد خلق وتجسيد وقائع حدثت فى الماضى بالطريقة التى حدثت فيها، ومن الأمثلة المبكرة فى تاريخ السينما على إعادة خلق وتجسيد واقعة تاريخية ما فعله المخرج الفرنسى جورج ميليه فى عام 1899 عندما أعاد فى فيلمه "قضية دريفوس" الذى أخرجه عن محاكمة الضابط اليهودى دريفوس خلق وتجسيد واقعة محاكمته التى حدثت بالفعل قبل عدة سنوات من تاريخ إنتاج الفيلم بل حتى من تاريخ اختراع السينماتوغراف أى الصور المتحركة، أو ما فعله المخرج الأمريكى دافيد وورك غريفت فى العام 1915 وذلك فى فيلمه الملحمى الشهير "مولد أمة" حين أعاد تجسيد حادثة اغتيال الرئيس الأمريكى لينكولن وهو داخل المسرح. وسنجد فى تاريخ السينما اللاحق مئات بل ربما آلاف النماذج على استخدام طريقة إعادة تجسيد الوقائع التاريخية، بل هناك أفلام تقوم على إعادة خلق وتجسيد واقعة معينة مع محاولة التقيد قدر الإمكان بتجسيد الواقعة كما حدثت فعلا، ومن أشهر الأمثلة فى السينما العالمية على ذلك الفيلم الأمريكى محاكمة فى نورينبرج عام 1961 الذى أخرجه ستانلى كرامر واستعاد فيه وقائع محاكمة الضباط النازيين فى مدينة نورينبرج بتهمة جرائم الحرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ حيث استفاد الفيلم من محاضر جلسات المحاكمة، ومن أمثلة ذلك فى السينما العربية الفيلم الروائى السورى "كفر قاسم" والذى أنتج عام 1974 للمخرج اللبنانى برهان علوية، والذى يستعيد وقائع المجزرة التى ارتكبتها القوات الصهيونية بحق مواطنى قرية كفر قاسم فى 1956 كما وردت فى الرواية الموثقة بالعنوان نفسه للكاتب عاصم الجندى، وشمل التوثيق أيضا وقائع جلسة المحاكمة للجندى الصهيونى المشرف على القوات التى ارتكبت المجزرة والتى انتهت بالحكم عليه فقط بغرامة مالية رمزية بلغت شيكلا واحدا. من أحدث الأفلام فى السينما العربية لهذه النوعية الفيلم الجزائرى "زابانا" والذى أنتج عام 2012 للمخرج سعيد ولد خليفة، عن قصة المناضل الجزائرى أحمد زابانا، والتى أعد السيناريو لها الكاتب عز الدين مهيوبى -وزير الثقافة الجزائرى السابق- وحشد فيه ما أمكنه من المعلومات الموثقة حول الواقعة، وهو أول شهيد جزائرى يعدم بالمقصلة عام 1956 وكان فى الثلاثين من عمره بعد أن وافقت الحكومة الفرنسية على استخدام أداة القتل هذه فى إعدام الثوار الجزائريين، وكان فرانسوا ميتران حينئذ وزيرا للعدل، وأدى استشهاده إلى إشعال شرارة الثورة الجزائرية بعد أشهر قليلة من تلك الواقعة.