قامت ثورتنا فى 25 يناير 2011 ترفع رايات السلمية وتهدف للتغيير الهادئ وتحاشت تماماً اللجوء للعنف أو التخريب، ورغم الدماء الزكية التى أراقها بطش النظام الغاشم المستبد، إلا أن الجماهير التزمت بضبط النفس وكظم الغيظ والتحكم فى الأعصاب وأسهم فى هذا المسلك الموقف الوطنى للقوات المسلحة التى رفضت إطلاق النار على الشعب، والذى كان من الممكن – لا قدر الله – أن يشعل حرباً اهلية تسيل فيها الدماء فى الشوارع أنهاراً، وتمتلئ الطرقات والميادين بالجثث والأشلاء، ولكنها رحمة الله التى حمت مصر من هذا المصير، وأيضاً حكمة الشعب والجيش فى هذا الوقت. وبعد انتصار الثورة أبى الشعب – بطبيعته السمحة – أن يلجأ للثأر ممن أذاقوه الذل والهوان وخربوا البلاد ونهبوا الثروات واستباحوا التعذيب والتنكيل والسجن والاعتقال والقتل، ورفض أن يعاملهم بصنيعهم بالمحاكمات الاستثنائية فى محاكم ثورية، وإنما قدمهم للعدالة أمام القضاء الطبيعى وبالقانون العادى، ولم يتأس بالثورة الفرنسية التى ما فتئت المقاصل تعمل فيها على مدار ساعات الليل والنهار فى قطع الرقاب ودحرجة الرؤوس، ولا غيرها من الثورات التى أعدمت بالرصاص كل المسئولين السابقين، بلا محاكمة أو حاكمت وحكمت وأعدمت فى نصف ساعة. وكان المأمول أن تقوم مؤسسة القضاء بتطهير البلاد من الفاسدين والمفسدين بالحق والعدل وأن ينطلق الشعب للبناء، بناء المؤسسات الدستورية وفق الآليات الديمقراطية، وبناء المؤسسات الإنتاجية لانتشال البلاد من كبوتها ووضعها على طريق التقدم والازدهار. إلا أن قوى كثيرة تكالبت على الثورة تبغى إجهاضها وإعادة النظام السابق بوجوه جديدة، وراحت تضع فى طريقها العراقيل والعقبات وتشدها إلى معارك جانبية تضيع وقتها وجهدها وتبعدها عن تحقيق أهدافها وتزرع الكراهية والشقاق بين أهلها وتهدم كل مؤسسة تنجح فى بنائها، وتضع عقبة جديدة كلما أفلحت فى اجتياز عقبة، فبعد انتخاب مجلس الشعب بتصويت ما يزيد على ثلاثين مليوناً من المواطنين، وبتكلفة رسمية وصلت لمليار وستمائة مليون جنيه تم حلّه بحكم قضائى مسيّس – للأسف الشديد –بعد تهديد واضح من رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وبعد انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور تم حلّها أيضاً بحكم قضائى آخر، وجرت محاولات أخرى لحل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية الثانية وتعويق إصدار الدستور لإطالة الفترة الانتقالية واستمرار حالة الفوضى والفراغ الدستورى، هذه القوى تمثلت فى رموز وبقايا النظام السابق الذين فقدوا سلطانهم ومصالحهم ورجال الأعمال الفاسدين الذين كونوا ثرواتهم من الحرام من دم الشعب وعرقه، ومن أركان الدولة العميقة المنتشرين فى جميع المؤسسات، ومن المستبعدين من بعض الأجهزة المتصلين بجيوش البلطجية والإرهابيين ومن بعض الدول الكارهة للثورة والخائفة منها والتى تدفع الأموال بغير حساب لمن تعتقده قادراً على إفشالها، وإعلام فاسد يتمول من رجال أعمال فاسدين وجهات مشبوهة، وسياسيين يمثل بعضهم الفلول، وكان البعض الآخر يحسب على الثورة إلا أنه إنحاز للثورة المضادة عندما أيقن أن الإرادة الشعبية والديمقراطية لن توصله إلى ما يبتغيه من مناصب ومكاسب، إضافة إلى شباب وطنى نقى استطاع الإعلام والسياسيون ان يوجهوه إلى غير الوجهة الصحيحة لتحقيق أهداف الثورة،ولا يمكن تجاهل اجهزة الاستخبارات الأجنبية التى تعبث فى الساحة السياسية، هذه القوى تحالفت – فى غالبيتها – على تأييد مرشح النظام السابق ومحاولة إسقاط مرشح الإخوان، أثناء انتخابات الإعادة ولكن الله سلم . وكانت خطة هذه القوى مجتمعة تعتمد على تصدير المشكلات اليومية وبدأت بالمعوقات القضائية ثم السياسية والإعلامية لتشويه كل إنجاز، فمجلس الشعب مجلس فاشل رغم أن ما أنجزه خلال أربعة أشهر يفوق ما أنجزته مجالس النظام السابق مجتمعة، ثم حُلّ هذا المجلس بحكم قضائى كما أسلفنا، ثم شُنّت حملة على الجمعية التأسيسية الثانية بغرض تشويه صورتها رغم أنهم توافقوا عليها فى البداية ثم محاولة تشويه الدستور ثم محاولة حلّ الجمعية ومجلس الشورى ثم الإنسحاب من الجمعية التأسيسية عندما أوشكت على إنجاز الدستور، ثم محاولة منع الاستفتاء عليه ثم إتخاذ موقف بمقاطعة الاستفتاء ثم دعوة المواطنين للتصويت عليه ب (لا) ، ثم الزعم بتزوير الاستفتاء، ثم عدم الاعتراف به رغم موافقة أغلبية الشعب عليه، وعندما دُعوا إلى حوار وطنى من قبل رئيس الجمهورية رفضوا، وعندما تحدد موعد لإجراء الانتخابات البرلمانية أعلنوا الرفض والإنسحاب . وعندما فشلوا فى هذا المخطط لجأوا إلى مخطط الفوضى والتخريب والقتل وبث الرعب فى نفوس المواطنين، فعندما أعلن الرئيس إعلاناً دستورياً يحصن الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى من الحل ويقيل النائب العام المعين عن طريق الرئيس المخلوع والممثل للنظام السابق– والذي كانت إقالته من مطالب كل الثوار - وأمور أخرى، أثاروا أعداداً من الشعب وحرضوا على الشرعية فخرج كثير من البلطجية إلى قصر الرئاسة وحاولوا اقتحامه وألقوا بداخله قنابل مولوتوف حارقة، وأعلن بعض السياسيين فقدان الرئيس لشرعيته ورغبتهم فى تشكيل مجلس رئاسى يدير البلاد، ومن يومها لم تتوقف المظاهرات التى يقودها البلطجية وتقوم بالتخريب فى القاهرة وعواصم المحافظات وتستهدف مبانى المحافظات ومديريات الأمن وأقسام الشرطة ورجالها ومقرات الإخوان المسلمين، فى الوقت الذى تبسط فيه بعض القوى السياسية غطاءها السياسى على البلطجية وتمدحهم وتثنى على أعمالهم باعتبارهم ثوّاراً وتخريبهم بأنّه ثورة، ولم يقف الأمر عند حد مؤسسات الدولة بل امتد إلى الفنادق لإرهاب السيّاح ودفعهم للعودة إلى بلادهم أملاً فى تحقيق إنهيار اقتصادى. ثم راحوا يدعون إلى عصيان مدني عام ، وعندما رفض الشعب الاستجابة لهم حاولوا فرضه بالقوة فمنعوا بعض الموظفين من الدخول إلى مقار أعمالهم ومنعوا بعض المواطنين من قضاء حوائجهم ومصالحهم في بعض مؤسسات الدولة ، إلا أن هذا المسعى باء بالفشل الذريع . ورغم فداحة الأضرار ومرارة الأحداث وقسوتها، إلا أن الله أحبط مكرهم السئ، وتحملت مصر الدولة والشعب والقيادة هذه المرارة على أمل أن يفئ هؤلاء العاقون إلى رشدهم أو تستيقظ ضمائرهم أو تتحرك وطنيتهم، ولكن يبدو أن كراهيتهم للإسلاميين وللإخوان فاقت كل حد، ولم يعد أمر الوطن والشعب يعنيهم فى شيء، إنما كل ما يعنيهم هو إسقاط النظام والقفز على السلطة . لذلك انطلقوا إلى الاحتمال الأسوأ وهو إحداث الوقيعة بين مؤسسات الدولة وأخطرها هو الوقيعة بين مؤسسة الرئاسة وجيش مصر الذى حافظ على الثورة من أول يوم، فراحوا يحرضون الجيش على نظام الحكم وعلى الرئيس المدنى المنتخب لأول مرة، يحرضون الجيش بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فتارة يكتبون مقالات كبيرة فى صحفهم يتساءلون فيها متى يتحرك الجيش، وتارة يطالبون بلا حياء أن ينقلب على النظام ويتسلم السلطة وتارة يجمعون له عشرات التوكيلات كى يتولى إدارة الدولة، وتارة ينقلون عن كيسينجر وزير خارجية أمريكا الأسبق بأنه يتوقع صداماً بين الإخوان والجيش، وتارة يكتب أستاذ فى الجامعة الأمريكية فى مصر يعمل لحساب أجهزة أمريكية أن أمريكا تراهن على الجيش، وتارة يكتبون بأن العلاقة بين الرئيس ووزير الدفاع متوترة وتارة يحرضون الجيش على حماس بدعوى أنها امتداد لحركة الإخوان فى مصر. وتناسى هؤلاء جميعاً أن الجيش رفض فى بداية الثورة أن ينقلب على الشعب، مستحضراً ما جاء بشأنه فى الدستور من أن ( القوات المسلحة ملك للشعب مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها ) ومستحضراً أيضاً أنه لو استجاب للطاغية وحاول قمع الثورة لقتل فى سبيل ذلك مئات الآلاف من إخوانه المصريين – وهذا مالم ولن يكون بإذن الله – وتناسوا أن الجيش سبق أن تولى إدارة البلاد لمدة سنة ونصف وأن إدارته لم تكن محل رضاً من الناس،لأن هذه ليست مهمته ، وقد صرح قادته بذلك وقتها، وأن هؤلاء المحرضين على نزوله اليوم كانوا أول المعترضين على بقائه فى إدارة البلاد، كما أنهم يتغافلون أنهم كانوا يدعون على الدوام إلى دولة مدنية واليوم يريدون عسكرة الدولة كراهية فى الرئيس ونظامه، ولو انقلبوا هم على مبادئهم وشعاراتهم القديمة . إن السيناريو الذى يدعون إليه هو السيناريو الأسود الذى لا نحذر منه على سبيل الافتراض ولكننا نراه رأى العين فى سوريا ورأيناه من قبل فى ليبيا، والشعب المصرى لن يسمح بحدوثه فى مصر – لا قدر الله – وهناك مئات الآلاف مستعدون لحماية الشرعية بكل الوسائل المشروعة، كما أن حكمة قادة الجيش ووطنيتهم وضمائرهم أرقى وأنقى من أولئك السياسيين الذين يدفعون البلاد إلى الدم والخراب من أجل تحقيق مطامعهم الشخصية . { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ} [البقرة : 11-12] ----- كتبت هذه المقالة قبل أن أستمع للمستشار أحمد الزند وهو يستغيث بالرئيس الأمريكي أوباما محرضا إياه على التدخل في مصر ، وتذكرت على الفور الخديوى توفيق وهو يستغيث بالإنجليز للدخول في مصر سنة 1882 ، وكذلك تذكرت الرئيس المخلوع حسني مبارك وهو يستغيث بشارون وجورج بوش الابن للسماح له بتزوير انتخابات مجلس الشعب 2005م وقلت في نفسي يا حسرة على وطنية الرجال الذي يبيعون حرية أوطانهم وكرامتها مقابل مصالح شخصية تافهة، وإنا لله وإنا إليه راجعون . عضو مكتب الإرشاد والمتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين