اعتقاد سائد بأن صانع الفيلم الوثائقى لا يقدم سوى الحقيقة من خلال عكس صورة الواقع فهو لا يعتمد كثيرا على الخيال أو وضع استنتاجات دون دلائل وذلك لطبيعة هذه النوعية من الصناعة التى تعمل على تقديم مواضيع وقضايا بهدف توصيل رسالة محددة وتوجيه نظر المتلقى لأشياء قد تكون خافية عليه. ولكن هل هناك معايير موضوعية لا يمكن الخروج عنها عندما يقوم مخرج الفيلم الوثائقى بصناعته؟ هل عندما يقوم المخرج بتقديم جزأ من الواقع دون تقديم ملابساته وخلفياته هل هو بذلك يخالف الحقيقة؟ هذه الأسئلة كثيرا ما تدور فى مجال صناعة الأفلام الوثائقية ففى كثير من الأحيان نجد الفيلم الوثائقى يوجه المتلقى ناحية وجهة نظر ويدعهما بكل ما أوتى من إمكانيات ومشاهد. والحقيقة الواضحة أن فى كثير من الأحيان يقوم صانع الفيلم الوثائقى بالكذب، وأكثر من إستخدم هذا النوع من الكذب هم اليهود فى محاولة لإضفاء التوثيق على ما أطلقوا عليه كذبا المحرقة اليهودية، فعلى سبيل المثال تم إذاعة لقطة شهيرة هزت العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية لبلدوزر يقوده جندى تجرف عشرات الجثث التى تبدو أقرب إلى الهياكل العظمية يلقى بها في حفرة فى معسكر "بيرجن بيلزن" للاعتقال الجماعى المقام داخل الأراضى الألمانية. هذه اللقطة تكرر ظهورها في عشرات الأفلام الوثائقية التي عرضت وظلت تعرض في دور العرض ثم فيما بعد على شاشات التليفزيون تأكيدا على الوحشية النازية وارتباطها بعمليات الإبادة الجماعية لليهود خلال ما عرف بالهولوكوست ولعل أشهر هذه الأفلام التى إستخدمت تلك اللقطة هو الفيلم الوثائقي "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي الشهير آلان رينيه الذي أخرجه عام 1955. السياق الذى وضعت فيه هذه اللقطة من الفيلم إلى جانب التعليق الصوتى المصاحب للفيلم من بدايته يدفع الجمهور إلى تصديق أن البلدوزر ألمانى غير مدركين أن الجندى الذي يقوده هو جندى بريطانى ويظهر ذلك من شكل القبعة العسكرية التى يرتديها وأن اللقطة صورت بعد تحرير القوات البريطانية للمعسكر وعثورها على جثث لنزلاء قتلوا بفعل الضربات الجوية العنيفة التى شنتها طائرات الحلفاء على المعسكر وأيضا جراء الجوع والعطش وانتشار الأوبئة الفتاكة بسبب انقطاع طرق المواصلات خلال الأشهر الأخيرة من الحرب وندرة الطعام، وهو ما ثبت فيما بعد، من أن معظم الوفيات وقعت بعد تحرير المعسكر ووقوعه في أيدى القوات البريطانية. المؤسف أن خبراء الدعاية الغربيين انتبهوا فيما بعد إلى التزييف الذى يمكن أن تكشفه قبعة الجندي فقاموا بإخفاء طرفها من اللقطة. ولعل من أكثر اللقطات شهرة تلك اللقطة لمجموعة من الجنود الأمريكيين خارج ما قدم للعالم عبر مجلة تايم بأنه غرفة الغاز فى معسكر "داخاو " الشهير فى ألمانيا رغم اعتراف السلطات الألمانية نفسها فيما بعد فى عام 1960 بأن "داخاو" لم يعرف وجود ما يسمى بغرف الغاز على الإطلاق بل جاء مدير معهد ميونيخ للتاريخ المعاصر عام 1960 أى بعد نهاية الحرب بخمسة عشر عاما لكى يؤكد في وثيقة مكتوبة أن الأراضى الألمانية لم تعرف وجود غرف الغاز بل أقيمت كلها خارج أراضى ألمانيا فى أوكرانيا وبولندا. وتصنع المؤثرات الموسيقية والتعليق الصوتي إيحاء قوياً بأن ما نشاهده هو الحقيقة بعينها في حين أن السياق السينمائي المصنوع هو الذي يوصل رسالة معينة قد تكون كاذبة تماماً فقد كان يكفى على سبيل المثال أن نشاهد فى الكثير من الأفلام الوثائقية التي ظهرت عن الهولوكوست كومة من الأحذية وكومة أخرى من النظارات ثم كومة ثالثة من الشعر فى لقطات مقتضبة تصاحبها موسيقى جنائزية وتعليق صوتي رخيم يقول لنا "هنا لقى عشرات الآلاف من اليهود مصيرهم المحتوم بالقتل في غرف الغاز" وذلك دون أن نعرف طبيعة المكان على وجه التحديد وكيف يمكن أن تكون غرفة مثل التى نشاهدها قد استخدمت فى قتل مئات الآلاف على مدى سنتين ونصف بوتيرة يومية متواصلة. تذكر الدعاية التي سبقت عرض الفيلم الوثائقي الشهير "الأيام الأخيرة" الذي أنتجه ستيفن سبيلبرج وأخرجه جيمس مول عام 1999 إنه "الحقيقة المجردة كما يرويها الناجون من الهولوكوست"وعند مشاهدة الفيلم اتضح أن معظم الذين يظهرون فيه من شخصيات هم مجموعة من الممثلين غير المحترفين الذين يؤدون أدوارا معينة بزعم أنهم يروون مشهاداتهم الحقيقية عن فترة وجودهم فى معسكرات الاعتقال النازية. فعلى سبيل المثال هناك سيدة تدعى "إيرين" تروى كيف تمكنت من الهرب من داخل غرفة الغاز بفعل قوة "أسطورية" لا تدرك كنهها فتقول إنها سيقت مع غيرها الكثيرين إلى داخل غرفة الغاز لكنها فجأة وبعد أن أصبحت محشورة داخل الغرفة وجدت قوة تدفعها للخلف بظهرها إلى أن خرجت من الغرفة وتمكنت من الفرار. ومن أكثر الأشياء مدعاة للسخرية في فيلم "سبيلبرج" الذي أنتجه لحساب مؤسسة "شوا" والتى تعنى "الإبادة" حيث وهبت نفسها لتوثيق تاريخ الهولوكوست أن هذه المرأة وهى ضمن خمس نساء يقول لنا التعليق إن صناع الفيلم عادوا بهن من الولاياتالمتحدة إلى بلدهن الأصلى المجر لكى يتذكرن ما جرى لهن أثناء الحرب العالمية الثانية على أيدى الألمان. وإيرين لا يبدو أنها تتجاوز الخمسين من عمرها على أكثر تقدير وقد سجلت شهاداتها عام 1995 أي بعد خمسين عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية فكم كان عمرها عندما كانت داخل معسكرات الاعتقال النازية التي تروى عنها وتتذكر الكثير من التفاصيل الخرافية المتناقضة كما لو كانت قد وقعت بالأمس القريب فقط! من ضمن ما ترويه إيرين مثلاً أن الكثير من النزلاء كانوا يلقون بأنفسهم على الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر وكانت مكهربة كوسيلة للخلاص بالموت إلا أن الألمان- حسب ما تقول- لم يعجبهم أن يتخلص اليهود من حياتهم بأنفسهم بل كانوا فقط "يريدون أن يقتلوهم وقتما يشاءون لا وقتما يقررون هم أن يموتوا"_ حسب نص عبارتها فى الفيلم _لذلك فقد كانوا يقومون بتعذيب خمسة من المعتقلين حتى الموت مقابل كل واحد لجأ إلى الانتحار بهذه الطريقة، وعندما تعود إيرين لرواية القصة مرة أخرى في موضع آخر من الفيلم تقول إن الألمان كانوا يقومون بتعذيب 100 شخص حتى الموت مقابل كل شخص يختار نهايته بنفسه قبل الموعد المحدد من قبل الألمان. أي ان الرواية تتناقض بوضوح ما بين 5 إلى 100 فالشاهدة الحية الناجية من الهولوكوست تعود لتضاعف العدد عدة مرات. وتضيف إيرين انها كانت من بين من وقع عليهن الاختيار لكى يجرى الأطباء الألمان عليهن التجارب لاستخلاص جلودهن واستخدامها في صنع عواكس المصابيح المعلقة والقفازات وهى إحدى الأفكار الخرافية التي لم يثبت وجودها في أى وقت وعندما تسألها المحاورة عما إذا كانت تتذكر إسم الطبيب تقول لها إنه قد يكون "أيخمان" أو "منجلر" فى خلط واضح مشوش بين الدكتور "جوزيف منجلز" وليس "منجلر" كما تقول المعروف بإجرائه تجارب طبية على الأحياء فى معسكرات الاعتقال وبين "أدولف أيخمان" ضابط الإس إس المسئول عن خطة ترحيل اليهود والذى اتهم بقتل اليهود بشكل جماعى واختطفته المخابرات الإسرائيلية عام 1960 وحوكم وأعدم فى إسرائيل. إن الخلط بين الحقائق وأنصاف الحقائق والقصص المختلقة سيبرز كثيرا فى الفترة من 1968 حتى يومنا هذا فى الكثير من الأفلام الوثائقية التي ظهرت فى الغرب عن الهولوكوست بوجه خاص وهو نموذج بارز لاستخدام الفيلم الوثائقى فى التضليل