هل شعرت يومًا بهذا الشعور؛ أنك قد أصابك بعض اليأس من إعراض الناس عن فكرتك؟ هل تساءلت يومًا: أين النتيجة؟ ووددت لو رأيتها؟ ثم تأتى إليك إجابة أكثر عمقًا وأبلغ فهمًا تقول لك: ما عليك إلا العمل، وليس عليك انتظار النتائج. أرجع فى هذه الأوقات إلى كلمات قرأتها وأنا صغيرة للكاتب محمد قطب معلقًا على حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها؛ فله بذلك أجر)). رواه البخارى وأحمد. يقول أ. قطب: تُرى ماذا كان يدور فى ذهن السامعين أن يقول لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحديث! لعلهم توقعوا أن يقول لهم: أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الأرض وتطهروا، اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إلى الآخرة. ولو قال لهم ذلك فهل من عجب فيه؟! أليس من الطبيعى والهول المهول على الأبواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالأرض؟ ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقل شيئًا من هذا، بل قال لهم أغرب ما يمكن أن يخطر على قلب بشر! قال لهم: اغرسوا الفسيلة. يا الله! يغرسها؟! وما هى؟! فسيلة النخل التى لا تثمر إلا بعد سنين؟ والقيامة فى طريقها أن تقوم؟ وعن يقين؟! وهى كلمة بسيطة لا غموض فيها، ولا صنعة، ولا تفنن. أول ما يخطر على البال هو هذه العجيبة التى يتميز بها الإسلام: أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق! أن العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر، إلى آخر خطوة من خطوات الحياة! يغرسها والقيامة تقوم هذه اللحظة، عن يقين! والدرس الآخر الذى نتعلمه من هذا الحديث أنه لا يأس مع الحياة.. العمل فى الأرض لا ينبغى أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة! وأصحاب الأفكار العظيمة، خاصة، لهم فى هذا الحديث درس أى درس؛ فهم أشد الناس تعرضا لنوبات اليأس، وأشدهم حاجة إلى الثبات. إنهم لا يتعاملون مع المادة ولكن مع "النفوس" والنفوس أعصى من المادة، وهى أقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف. والسم الذى يأكل قلوبهم هو انصراف الناس عن فكرتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها فى كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، عندئذ قد يصيبهم اليأس ويتهاوون فى الطريق إلا... إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق.. إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين! إنه صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه! فحين تسأل نفسك: متى تثمر الفسيلة، وكيف تثمر وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟ وحين يصل بك التفكير إلى أن تطرح الفسيلة جانبًا وتنفض منها يديك حينئذ كيف تثمر؟ وأنَّى لها أن تعيش؟ ألست قتلتها أنت حين أفلتَّها من يديك؟ ولكنك حين تغرسها فى الأرض وترفع يديك لله بالدعاء؛ حينئذ تكون قد أودعتها مكانها الحق، وعهدت بها إلى الحق الذى يرعاها ويرعاك. وحين تصنع ذلك تطلع الثمار.. لا عجب فى ذلك ولا سحر! وإنما أنت تؤدى دورك وتمضى، فيجىء غيرك فيعجب بك وما صنعت، فيذهب يتعهد فسيلتك التى غرست، فتنمو وتطلع الثمار. وقد تكون سعيدًا بمقاييس الأرض؛ فترى الثمرة وأنت حى فى عمرك المحدود. وقد تمضى قبل أن ترى الثمار... ولكن أين تمضى؟ هل تمضى لأحد غير الله، فماذا إذن عليك حين تصل إلى هناك، أن تكون قد رأيت الثمرة هنا، أو تراها وأنت هناك.. كلا! إنهما فى النهاية سيِّان. وإنما ترضى وأنت فى جوار ربك أنك غرست الفسيلة فى الأرض، ولم تدعها من يدك يقتلها اليأس والإهمال.