ما أجمله من هُتاف، وما أصدقه من قول، وما أعظمه من شعار هتف به حملة الحق وطبَّقوه فى حياتهم، ومضوا إلى الله تعالى يحملون هذا النور، ويُبَشِّرون به، ويدعون إليه، وملائكة الرحمن تهنِّئ كل مؤمن سعد بدينه، ورضى بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (يونس: 58). ولقد تحدَّث أحد العلماء العاملين عن هذه الرحمات التى شملت جميع أهل الأرض وعن هذا العطاء الربانى الذى لا يستطيع أهل الأرض والسماء أن يحيوا لحظة من غير هذا الفضل -سبحانه وتعالى- "فها هى الأرض تستقبل أوائل المليار السابع على تربتها المباركة.. سبعة مليارات من الخلق، ماذا يلحظ أولو الألباب فى هذا العدد الضخم؟ سبعة مليارات فَم تَطعَم من رزق الله عز وجل! سبعة مليارات يد تبطش بقدرة الله تعالى، سبعة مليارات قدم تسعى بإذن الله سبحانه! والعجب أن الذى دفع قوافل هذه الأحياء تمشى على ظهر الأرض لا يشغله شأن عن شأن!! فهو فى الوقت الذى يأمر المخ فيصدر تعاليمه لجهاز الأعصاب فى البدن كله، فى الوقت الذى يُصدر تعاليمه للكلى كى تفرز الأذى وتطرده من البدن، فى الوقت نفسه تراه يُدير القمر حول الأرض، ويدير الأرض حول الشمس، ويجعل الشمس تجرى لمُسْتقرٍّ لها، ويبعثر فى الفضاء الواسع والملكوت الضخم ألوفًا مؤلَّفة من المجرَّات التى تُسَبِّح بحمد الله تعالى، ما يزيغ فلك من مساره، ولا ينحرف كوكب عن مداره، إن الذى يُدبِّر الأمر عند سدرة المنتهى هو هو جل جلاله الذى يُدبِّر الأمر فى جهاز هضمى أو عصبى لحشرة تزحف على ظهر الأرض.. ما أعظم ملكوت الله سبحانه وتعالى!! ولكن المكذبين لا يعلمون "ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" (المرسلات: 15)، إننا ننظر إلى عظمة الله عز وجل، وإلى جلال الله، وإلى فضل الله، وإلى حكمة الله؛ فنشعر بخضوع العبودية وإخلاص من يتوجهون بسرائرهم وبصائرهم إلى ربهم "ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ" (الإسراء: 57). ويقول الحق تبارك وتعالى فى سورة البقرة: "اللَّهُ لا إلَهَ إلا هُوَ الحَى القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِيالسَّمَوَاتِ ومَا فِى الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إلا بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُوَ العَلِى العَظِيمُ" (البقرة: 255). آيات من سورة البقرة نقرؤها فى كل يوم صباحًا ومساء، فما هي؟ وما أبعادها؟ وما هى المكانة التى يجب أن تستقر فى قلب كل مسلم من هذه الآيات؟. إن هذا الموضوع الذى أشارت إليه الآيات، وهو المنهج الذى يقوم على أساسه المنهج الإسلامى كله منهج التوحيد الخالص،ولا يستقيم هذا المنهج فى الحِسّ إلا أن يستقيم ذلك الأساس ويتضح، ويتحول إلى حقائق مُسَلَّمة فى النفس، تَرْتَكِن إلى الوضوح واليقين، وكل صفة من هذه الصفات التى تضمَّنَتْها هذه الآيات تُمثِّل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامى الناصع، كما يقوم عليها المنهج الإسلامى الواضح. ويقول سبحانه وتعالى فى سورة مريم عن الخلق الذين أوجدهم من العدم وأكرمهم وأرسل إليهم الأنبياء مُبشِّرين ومُنْذِرين يقول عزَّ من قائل: "إِنْ كُلُّ مَن فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إلا آتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وعَدَّهُمْ عَدًا * وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا" (مريم: 93 - 95)، ثم أشار سبحانه إلى الوحى الذى تَكرَّم سبحانه وتعالى بإنزاله، وأنه اليُسْر حتى لا يدَّعِى مخلوق بأنه لم يفهم ما أنزل الله، فيقول تعالى: "فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًا" (مريم: 97). نعم الله غايتنا:لأن له القدرة النافذة والهيمنة التامة على هذا الكون. الله غايتنا: لأنه هو الذى رفع السماء وبناها، وفرش الأرض ودحاها، قال تعالى: "والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإنَّا لَمُوسِعُونَ * والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ * ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (الذاريات: 47 - 49). - وبعد ذلك تأتى الحقيقة الكبرى أن يعرف الإنسان ربه، وأن يؤمن به، وأن يلجأ إليه فى السَّرَّاء والضَّرَّاء، وأن يقف ببابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، والقرآن يدعونا إلى الفرار إلى الله عز وجل، فلا عاصم منه إلا إليه. ويقول جلَّ شأنه: "فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ" (الذاريات: 50، 51)، وبهذا السَّنَد وحده يقوى المؤمن ويشتدّ عوده، وينطلق فى فجاج هذه الدنيا يُربِّى ويُعلِّم ويُوجِّه ويقول الحق لا يخشى إلا الله الذى فَرَّ إليه واعتمد عليه، وكان أحد السلف الذين سبقوا إلى هذا المقام عندما يُخَوَّفُ من البشر أعداء الله يقول بقوَّة وشجاعة وإيمان ويقين: "ماذا يفعل أعدائى بي؟! إنَّ قتلى شهادة، وإن سجنى خُلْوة، وإن تغريبى سياحة"، وكان الإمام البَنَّا رحمه الله يسير فى شوارع القاهرة وقد صادروا سيارته، وأخذوا سلاحه، واعتقلوا الرجل الذى كان ذاهبًا إليه، وكلها تصرفات تنطق بأنهم ينْوُون الشرّ ويُبيِّتُون العدوان، ومع ذلك فلم يعبأ بكل هذا؛ لأنه يحرص على الشَّهَادة فى سبيل الله رحمه الله ورضى عنه وتقبّله مع جميع الشهداء والصالحين. إن التعبير بالفرار فى الآية له مدلول واضح، فمن عرف الله سبحانه حق المعرفة لجأ إليه، وسارع إلى مرضاته ونظر إلى هذه الدنيا على حقيقتها ورآها بعين المؤمنين تافهة خدَّاعة، فالمراد بالفرار -كما قال العلماء- أنه لفظ يُوحى بالأثقال والأغلال التى تشدّ النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتُقعِدها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها فى عقال، وخاصة التعلُّق بالرزق والحرص على الفانية والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود، ومِنْ ثَمّ يجيء الهتاف قويًّا للانطلاق والتخلُّص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده مُنزَّهًا عن كل شريك، وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: "إنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ". ويقول الحق تبارك وتعالى مُعلِّمًا إيانا ومذكِّرًا لنا بالحقيقة الكبرى التى تجب علينا وجوبًا عينيًّا لا هوادة فيه قائلاً: "ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ" (الذاريات: 56 - 58). ومن الحقائق التى تبرز لنا فى هذه السورة حقيقة ضخمة أن هناك غاية كبرى من خلق الجن والإنس،تتمثل فى أن مَنْ قام بها وأدَّاها فقد حقَّق غاية وجوده وهى العبودية لله تعالى، فهناك ربٌّ وعبد.. خالق ومخلوق.. وقوى وضعيف.. وقادر وعاجز، ومن قَصَرَ فيها أو بَعُدَ عنها فقد أبطل غاية وجوده، وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته خالية من القصد، خاوية من معناها الأصيل الذى تستمدُّ منه قيمتها الأولى. أيُّها الإخوان.. أيُّها العاملون للإسلام.. لقد هانت وذلَّت حياة يُحْجَب المرء فيها عن ربِّه "لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَى عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 42). كان أسلافنا فى أعلى درجات اليقظة يحافظون على الدين والدنيا معًا، وكانوا إذا نُودى للصلاة أسرعوا إلى المساجد فإذا أدُّوا الصلاة وقفوا على أبواب المساجد وقالوا: "اللهم إنّا قد أجبنا دعوتك، وأدَّينا فريضتك، وانتشرنا كما أمرتنا، فارزقنا وأنت خير الرازقين"، فجمعوا بين طاعة الله ومتطلبات الحياة فيجب أن نحْذُوَ حذوهم، وأن نسير خلفهم، وأن نضع كل شيء فى ميزانه الصحيح، وأن تكون طاعة الله ورسوله والجهاد فى سبيله من أولى غاياتنا، ونبرأ جميعًا من أن تكون الدنيا مبلغ علمنا وأكبر همِّنا، ونتمسك -بل ونعتقد- أن يكون القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همِّنا وغمِّنا فنتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ونعيش مع ربِّنا نؤمن به ونحبه، ونتبع رسوله صلى الله عليه وسلم ونهجر الأنداد والكذَّابين والضالين تأكيدًا لقول ربنا: "ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًا لِّلَّهِ" (البقرة: 165). ويجب أن نحبَّ دعوتنا فهى الإسلام الذى جاءنا من عند الله تعالى،وأن نحرص على فدائها بكل ما نملك، وأن تصحبنا هذه النيَّة طوال حياتنا، ويجب أن نُقدِّر إخواننا فبِهِم ارتفع البناء وعزَّ الإسلام وارتفع صوت الحق، فهم العُدَّة والعتاد، وهم الخير والبركة.. ندعو لهم آناء الليل وأطراف النهار بالتوفيق والسداد، وأن يكون الله تبارك وتعالى غايتنا. والله أكبر ولله الحمد