تحاول بلادنا فى تلك الآونة أن تطرق كل ما يمكنها طرقه من أبواب حتى تعود قوية فتية كسابق عهدها، ويجدر بنا هنا أن نلفت الانتباه إلى مجالات لا تتطلب كثيرا من أموال أو سنوات طويلة، وإنما تحتاج فقط إلى حُسن التخطيط، حتى تجنى ثمارها سريعا، ومن هذا مجالات الثقافة والأدب؛ فمن الظاهر بعد تتبع الحالة الثقافية العالية أن مصر ما زالت بعيدة عن تلك الأجواء العالمية، حتى إن الجائزة الأدبية العالمية التى تحققت لمصر فى يوم ما كانت من أجل رواية لا تتحقق فيها ملامح الثقافة الإسلامية العربية الأصيلة -أولاد حارتنا لنجيب محفوظ-، بدليل أن مؤسسة الأزهر قد منعت نشرها، وهو ما يعنى أننا أمام تحدٍّ، مفاده أن نُظهر ملامحنا العربية والإسلامية فى منتجاتنا الأدبية والثقافية، وفى الوقت نفسه، نحقق لها الوجود والرواج فى السوق العالمية، فكيف يتحقق ذلك؟ الإغراق فى المحلية بداية، يقول د. نجيب عثمان أيوب -أستاذ الأدب والنقد بجامعة حلوان-: إذا أردنا لثقافتنا أن يكون لها رواج عالمى، فليس أمامنا سوى أن نغرق فى محليتنا، وهو مبدأ ثقافى دولى، فالثقافة العالمية تبدأ من الإغراق فى المحلية؛ وذلك بمعنى أننى إذا أردت العالم أن ينظر إلى، فيجب أن أظهر أمامه بمظهرى العربى والإسلامى، فلكى يتحقق الرواج لهويتى الحقيقية أمام العالم أجمع، لا بد أولا أن أكون مخلصا لها، فى ذاتى، واعتقادى، وعروبتى، وشكلى، أما ما حدث فى الثقافة العربية أنها أخذت من هنا وهناك، من الشرق ومن الغرب، فى حين أهملت كثيرا مما ورثته، أو مما تُرك لها من تراث عريق، الذى هو التراث الإسلامى. وعن الآليات، يضيف أيوب: إن أهمها هى أن نضع أيدينا على السمة الحقيقة لنا وهى "السمة الوسطية"، ولكن كيف تظهر تلك الوسطية فى الثقافة، فمن المعروف أنها تظهر فى الخطاب الدينى؟ -يجيب أيوب-: حين نبحث عن أصل كلمة ثقافة نجد أنها فى العربية من "ثقف العود" أى أزال عنه اعوجاجه، وأصلح منه، ولذا فتثقيف الفرد هو تعديله وتقويمه؛ بحيث يصير سليما، سواء فى العادات والتقاليد، أو فى تناوله لكل جوانب الحياة الحضارية والمدنية. ومن ناحية أخرى، فكلمة الوسط لا تعنى المعنى الأرسطى الذى يفسرها بأنها مسافة ثابتة على بعد واحد بين نقطتين، وإنما الوسط تعنى الأفضل والأقوم، ولذا قال تعالى فى سورة القلم: "قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)"، أى أفضلهم وأعقلهم وأكثرهم قوامة واتزان. وبالتالى لا يصح فى العقيدة قصر معانيها الوسطية على الخطاب الدينى. وتلك الوسطية قد ظهرت فى الأدب العربى على مر العصور منذ صدر العصر الإسلامى، فمنذ عصر النبوة الأول وقد تحول مثلا الهجاء الجاهلى الذى كان يهجو بالأم والأب وغيرها من ألفاظ الشتم، قد أصبح هجاء بالبعد عن جادة الطريق، والبعد عن الله، كذلك الغزل كان صريحا فى العصر الجاهلى متطرفا فى ذلك، ولكن فى العصر الإسلامى تحول إلى المعانى العفيفة النقية، وهذه هى الوسطية التى أقصدها، التى إن تبعناها بآلياتها الدقيقة، نستطيع عندئذ أن نظهر على الساحة، وننتج أدبا عالميا. وحول ما يتراءى أمام الجميع من سيطرة الاتجاهات السياسية الدولية على السوق الثقافية العالمية، وصعوبة أن يجد الأدب المصرى -خاصة فى نزعته العربية الإسلامية- أن يجد لنفسه منفذا أو ممرا، يقول أيوب: إن تلك العقيلة تسيطر علينا دائما، فى حين أننا لا نلتفت إلى أن هناك أمما وشعوبا قد نجحت فى فرض نفسها على العالم، وذلك ليس إلا بإخراج منتج أدبى لفت النظر إليها. فرغم أن سينما هوليوود على سبيل المثال أشهر من السينما الهندية، إلا أن ذلك لم يمنع الأخيرة من أن تغزو السوق الأمريكية، ذلك لأنها نجحت فى إظهار الهوية الهندية، بحيث أنتجت ما هو غير موجود فى الغرب؛ فالعالم يأتى إلى القاهرة وإلى الأقصر وأسوان، ليس ليرتدى ثياب الشاطئ، ويحتسى الخمور، وإنما ليرى أصالة هذا الشعب فى الفلاح والقرية، والنيل، والزراعة، وغيرها مما يتميز به هذا الشعب العظيم. يتابع: إن هناك فى تلك الآونة فرصة كبيرة متاحة بعد نجاح ثورات الربيع العربى، يجب أن نستغل تلك الفرصة فى إخراج منتج عربى أصيل وجيد فى نفس الوقت؛ بحيث لا يقل عن مستويات الجودة العالمية، وحينها سنبهر العالم، ولكن لا بد أن ننتصر لذلك داخليا أولا، وهو أمر يسهل أيضا مع بعض البرامج للتوعية الإعلامية، وبعض الضبط للمقررات التعليمية. الترجمة والحرية من جانبه د. محمد المرسى -أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية، جامعة الأزهر- يلفت الانتباه إلى قضية الترجمة، وكيف أنها أمر هام إذا أردنا أن ننقل أدبنا وثقافتنا للعالم؛ حيث إن هناك حالة فقر كبيرة فى الترجمة عن العربية أو منها إلى لغات العالم، ولذا فلا ننتظر من الآخرين حتى يلتفتوا لنا ويترجموا عنا، بل نسارع نحن فى الترجمة عن أنفسنا. أيضا من المناسب أن يكون لدينا كُتاب يكتبون بلغات أخرى غير العربية، وينشرون بالمجلات العالمية الأدبية منها والثقافية، وذلك حتى نعطى بأنفسنا صورة حقيقة صادقة عن قضايانا المهمة، ومن هذا مثلا أدب الثورة وما يتصل به، خاصة أن الأدب ينمو ويزدهر فى عصور الحرية -وهى بالطبع حرية مضبوطة مسئولة، لأن الحرية المطلقة، مفسدة مطلقة- وذلك عكس عصور الاستبداد التى نجد فيها الأديب إما أنه يهرب من التعبير، وإما أن يستخدم الرمز خوفا من الملاحقات الأمنية، وبالتالى لن يعبر التعبير الصادق المطلوب عن هموم وطنه ومجتمعه، ولذا ينبغى حُسن استثمار أجواء الحرية تلك فى كثرة وتنوع وغزارة الإنتاج الأدبى. وهذا الصدق فى التعبير عن الواقع والهم المجتمعى، هو ما يفسح المجال للرواج والوجود العالمى. ومن ناحية أخرى فإن الحُكام إذا قاموا بتشجيع الأدب، وذلك مثلما كان يحدث فى العصور القديمة كالعباسى الأول والثانى؛ حيث كان الحُكام يشجون الأدباء والمثقفين، وينفقون ببذخ عليهم، وذلك فى توفير المجالس والمنتديات الثقافية والأدبية؛ بحيث تسهم فى إنتاج الأدباء وتدريبهم وصقل مواهبهم. يضيف د. محمد: إننا لا يصح أن نتساءل عن وضعنا المهمش، ونحن على هذا الحال من عدم العناية بالثقافة، ففى مجال كالمواهب مثلا نجد أن فى اليابان هناك من يهتم بالموهبة منذ الصغر؛ بحيث يتعرفون على ميول كل طفل وإمكانياته، ليتم العناية بها وتطويرها مبكرا، بل والإنفاق عليه، وتوفير الأجواء المناسبة لنمو موهبته. ومن ناحية أخرى، وبالعودة إلى ما يؤدى إلى الوجود على الساحة الثقافية العالمية، يذكر د. محمد: إن البعثات العلمية هى مما يؤدى إلى الرواج العالمى، وذلك مثل ما كان يحدث فى عصر البعثات قبل ذلك، فلو أن كل أديب توفرت له فرصة السفر إلى الخارج، سيقوم تبعا لذلك بالتعرف والتعلم، وأيضا بإثبات الوجود المصرى فى محافل كثيرة مختلفة. أما عن تأثير الجوانب السياسية، فيقول: إنه وبلا شك إذا اتخذ المجتمع الدولى -أو دولة ذات سيادة فى العالم- اتخذت سياسة عقابية ما تجاه دولة من الدول، سيكون لهذا بالطبع تأثير سلبى على هذا البلد فى رؤية العالم له، أو فى الصورة الذهنية والانطباع عنها، وفى الوقت نفسه تؤثر على سمعة هذا البلد فى الناحية الأدبية والثقافية؛ وهو الأمر الذى يتم حله أولا طبعا بتحسين العلاقات الدولية، ثم بعمل دءوب من قبل البعثات الثقافية والعلمية، بل والجاليات الموجودة خارج البلاد؛ بحيث تسعى فى تغيير تلك الصور الذهنية، وترك صورة أخرى قوامها التحضر والرقى، وذلك عن طريق تنظيم الحوارات واللقاءات والمناظرات؛ حيث ثبت أن هذا النشاط الشعبى، وتلك المنتديات الأهلية لها من التأثير ما هو أكبر وأدوم من التأثيرات السياسية بكثير. المؤسسات المحلية ويرى الشاعر ناصر أمين -مقرر رابطة أدباء الحرية- أن البداية للرواج العالمى لا بد أن تتحقق فى الداخل أولا، وذلك بمعنى أن يسيطر أصحاب الرؤى والتوجهات الهادفة على مؤسسات الإنتاج الثقافى. يضيف: أنه وقبل ثورة يناير كان المسيطر على الحالة والمقدرات الثقافية ويستفيد منها هو الاتجاه العلمانى فقط، أما الآن ولأن الوضع مرهون بإعادة تربية أمة من جديد، فلا بد أن نربيها إذن على ثقافة كانت تقود العالم حتى وصلت به إلى الأندلس. وهو ما لا يتم إلا إذا كان المسيطر على المؤسسات الثقافية، هم أصحاب الرؤية الإسلامية كمشروع ثقافى وفكرى، وهو ما لا يعنى أن يكونوا فقط من المنتمين إلى تيارات بعينها. وحين يتم ذلك سيفتحون هم الأبواب لأصحاب القضايا الحقيقية، والهموم الوطنية، وأصحاب المبادئ فى الإبداع الأدبى. وهذا هو باب تحقيق الرواج العالمى؛ لأنه سيفتح الباب أمام بضاعتنا الفكرية والثقافية المحلية، أما الآن فبضاعتنا ليست موجودة، فالأدباء والمبدعون كانت تُرفض أعمالهم لأسباب سياسية وأمنية وفكرية، لكن حينما نزيل تلك العوائق، ويأتى على رأس تلك المؤسسات أصحاب الفكر بل والعدل أيضا فى الرؤية والتقييم، حينها سنستطيع أن نقول إن لدينا منتجا ثقافيا جيدا، يستحق أن ينافس عالميا، وفى كل مكان سيسقط فيه علم من أعلام الفساد، سيصعد مكانه علما من أصحاب المبادئ والإبداع الحقيقى. وعن الخوف من أصحاب المشروع الإسلامى، يقول ناصر: إن الناس تخشى من أصحاب المشروع الإسلامى سمعا فقط، بلا موقف مباشر أو عداوة لمسوها معهم، وهو أيضا الخوف المبهم غير المبرر الموجود عالميا، وهو أمر يختلف عن التوجهات السياسية العالمية التى تريد أن تُفشل المشروع الإسلامى فى مصر، حتى تظل مسيطرة عليها وعلى من حولها.