ذكرنا أنه لا بد من وجود جيل تتحقق فيه الصفات التى تؤهله للدخول فى دائرة المعية والنصر والتأييد الإلهى ليغير الله به حال الأمة ويعيد إليها دورها فى قيادة البشرية وأستاذيتها على العالم.. وأول صفات هذا الجيل أنه: جيل مخلص لله.. نعم، قد تتوفر هذه الصفات فى أفراد هنا أو هناك، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل لا بد من وجود جيل مترابط يتنزل عليه النصر والتمكين. يقول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55). فالآية تخاطب المؤمنين وتبشرهم بالوعد الإلهى بالتمكين والاستخلاف فى الأرض شريطة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. والملاحظ أن الآية ذكرت كلمة "شَيْئًا" لتخرج بالشرك من الدائرة الضيقة –دائرة الشرك الظاهر– إلى الدائرة الواسعة التى تتضمن كل أنواع الشرك، سواء كان ذلك فى التوجه أو الاستعانة.. فكل ما ينافى التوجه التام والمطلق لله عز وجل فهو شرك. عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معى غيرى، تركته وشركه) [رواه مسلم]. كذلك فنحن مطالبون بأن نستعين بالله وحده على أداء أى عمل، فلا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، وعندما يستعين المرء بغير ربه ويظن أنه يصل لهدفه بدونه سبحانه فقد أشرك به... ومن الصور الخفية للاستعانة بغير الله: الاستعانة بالنفس والاعتقاد بما حباها الله من إمكانات على أنها ملك ذاتى للعبد يفضُلُ بها غيره، أو أنه يمكنه استخدامها والاعتماد عليها وقتما شاء، فإذا ما وصل لهدفه فرح بنفسه ونظر إليها بعين الرضا والإعجاب.. فهذا هو الإعجاب بالنفس الذى يُعد من أخطر أنواع الشرك بالله. أما خطورة الشرك الخفى من رياء أو عجب وما يؤديان إليه من غرور وكبر ونفاق فكبيرة، أقلها إحباط العمل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِى يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ (البقرة: 264). ويؤدى إلى غضب الله ومقته، قال صلى الله عليه وسلم: (من تَعظَّم فى نفسه، واختال فى مشيته، لقى الله وهو عليه غضبان) [صحيح: أخرجه أحمد]. ويؤدى إلى الخذلان وحرمان التوفيق والتعرض للفتن، ولنا فى قصة غزوة حنين أبلغ مثال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25). فليست القضية فقط فى إخلاص التوجه لله، بل لا بد كذلك من الاستعانة الصادقة به سبحانه، وعدم رؤية العمل أو رؤية النفس بعين الفرح والرضا والإعجاب.. وعندما يسير العبد فى طريق الإخلاص لله عز وجل فإن هذا من شأنه أن يترك عليه آثارًا وعلامات يشعر بها بداخله، ويلاحظها عليه من حوله... من هذه العلامات أن العبد لن ينتظر من وراء عمله رضا رؤسائه عنه، أو توجيه الثناء له، أو خلع الألقاب عليه، أو تقديمه على غيره من زملائه. ومنها أن يسعى لإخفاء مكانه وعمله غاية الإمكان، فلا يتحدث به تلميحًا ولا تصريحًا. ومنها: أنه يستوى عنده العمل فى المقدمة، مع العمل فى المؤخرة، بل إن عمله فى المؤخرة سيكون أحب إليه حيث لا يتعرض لنظر الناس أو ثنائهم عليه. ومنها: أنه لن يضيق صدره إذا ما تخطاه الاختيار للقيام بعمل له فيه سابقة خبرة أكثر من غيره، بل إنه يساعد من اختير لذلك ويقدم له نصائحه وخبرته. ومنها: وجود خبيئة من أعمال صالحة بينه وبين الله لا يعلمها أحد سواه. ومنها: أنه لن يفتخر على أحد بشىء حباه الله به. ومنها: أنه يكثر من الاستغفار بعد أعماله الصالحة. ومنها: أنه يجاهد نفسه ولا يستسلم لخواطر العُجب، بل يعالجها ويسقيها الشراب المضاد الذى يعيد لها التوازن ويضعها فى قالب العبودية. ومنها أنه لن يرى أنه مخلص، بل يسىء دومًا الظن بنفسه، ويتهمها بالنفاق و... و... وأشياء كثيرة تدل على الإخلاص التام لله عز وجل فى التوجه والاستعانة. والناظر والمدقق فى سيرة الصحابة –رضوان الله عليهم– يجد أن مظاهر صفة الإخلاص قد تجلت فيهم بوضوح. انظر مثلًا إلى حرصهم على إخفاء أعمالهم والذى يتجلى فى هذا الأثر: عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، قال: فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماى، وسقطت أظافرى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بريدة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، كأنه يكره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه. [رواه مسلم] وهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه يبعث برسالة إلى خالد بن الوليد –رضى الله عنه– بعد انتصاراته فى العراق يقول له فيها: فليهنك أبا سليمان النية والحظوة فأتمم يتم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل، وإياك أن تُدل بعمل فإن الله له المن وهو ولى الجزاء. فالإخلاص أول وأهم صفات الجيل الذى سيحقق الله على يديه النصر والعزة.