لقد ألحّ علىَّ كثيرًا أن أكتب عن مؤامرات الخارج التى تجد صداها بوضوح فى كثير ممن يسمون بمعارضة الداخل، خاصة بعد أن أصبح الأمر أكثر سفورًا ووضوحًا من خلال ما يُنشر ويُعلن، وما يتخذ من أفعال وتصرفات على أرض الواقع. ولعل الأمر قد تعدى كل احتمالات العقل والمنطق لدرجة أن قيادات كنا نلتمس فيهم الوطنية والعقل، وتنفسنا الصعداء حينما صرح بعضهم فى أثناء تصويته ب"لا" على مشروع الدستور، قائلا: "سنقبل بالنتيجة أيًّا كانت ونجهز أنفسنا للانتخابات البرلمانية"، ثم فجأة تنقلب الأمور رأسا على عقب، لدرجة أن تصريحاتهم أصبحت مادة للتندر والفكاهة! خاصة تصريح صباحى الذى قال فيه بوضوح: "سوف نعمل على إسقاط هذا الدستور، مناقضًا تصريحه فى أثناء التصويت، ثم يبرر ذلك بعذر لم نر له مثيلًا فى أى دولة، سواء أكانت تنتمى للنظم الديمقراطية أم للنظم الشمولية، حيث قال: "كيف نقبل أن تفرض أغلبية قليلة إرادتها على أقلية كبيرة!". ولن أستطرد فى تصريحات أخرى أشد عجبًا وغرابة لدرجة تجعلك دون أن تدرى تنفجر فى موجة غير عادية من الضحك، وقديمًا قالوا: "شر البلية ما يضحك". لقد تبلور المشهد فى مؤامرة حقيقية واضحة المعالم، تريد أن تقود مصر بعد الثورة من أزمة إلى أزمة، ومن متاهة إلى متاهة، ومن سفاهة إلى سفاهة، لإضاعة أكبر قدر من الوقت فى العبث واللغو وإثارة الفتن، حيث لا تترك للشعب المصرى أى فرصة للتوجه بكليته نحو البناء والنمو لاستغلال إمكاناته وموارده والقيام بدوره اللائق به ليكون فى صدارة الأمم. وكأنى قد أيقنت أن ما يحدث من مثل هذه الأفعال قد أصبحت إستراتيجية ثابتة لإحداث درجة من التشويش والشوشرة لإدخال الوطن فى دائرة من اللغو الفارغ لا تنتهى، وهى بذلك تحقق الحد الأدنى من هدفها غير المعلن وهو إلهاء الجميع عن الالتفات إلى البناء والتركيز على تحقيق النهضة والديمقراطية الحقيقية التى يحلم بها الشعب المصرى بعد ثورته. لذا فإننى أدعو نفسى وغيرى من المفكرين والكتاب والساسة إلى اتباع إستراتيجية الإعراض، التى نبهنا إليها القرآن الكريم بقوله: {قدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون: 1-3]، وحينما وصف عباد الرحمن بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. ظللت أتأمل كثيرًا عظمة هذا التوجيه القرآنى العظيم الذى يريد أن يأخذ بزمام المؤمن الحق نحو التركيز على البناء، وعدم الانشغال عنه بالالتفات إلى خطاب الجاهلين والحاقدين، ولو بمجرد الرد عليهم، فإستراتيجية الإعراض والرد الهادئ هى الإستراتيجية الوحيدة المعتمدة مع اللغو، والجهالة {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}، دون أن يستفزهم فيشغلوا به أو حتى يستمعوا له! إن ساعة العمل الثورى قد دقت معلنة أن هناك أسابيع وشهورًا قد ضُيِّعت عمدًا فى لا شىء، ليظل الوطن يراوح مكانه، بل ربما يترنح فى مكانه تمهيدًا للردة به إلى عهود الفساد والاستبداد. أقول لكل محبى مصر: إن أمامنا همًّا ثقيلًا، وإرثًا مريرًا، وجهدًا كبيرًا لاقتحام العقبة الكئود التى أراد أعداء مصر أن تظل محبوسة داخلها مدى التاريخ. إن إدارة التحول هى التحدى الأكبر الذى يواجه البنائين العظام من رجال المرحلة، فنحن نحتاج إلى إدارة علمية للتغيير والتحول الثورى، فلا يكفى للنجاح أن نقطع رأس الفتنة والفساد، ولكن علينا أن نكمل مراحل التغيير والتحول التى تقتضى منا أن ندير بنجاح خطواتها الثلاث وهى مرحلة التخلية والخلخلة، ثم مرحلة التغيير والبناء، ثم مرحلة تثبيت النظام الأمثل الجديد الذى يمثل حلم الثورة الذى قامت من أجله. إن نقطة البداية هى خلخلة نظام الفساد والاستبداد الذى تساندت أركانه وتشابكت بشكل عضوى متكامل، ليكون كوحش كاسر يحاول التهام كل من يحاول الاقتراب منه وترويضه، ولا شك أن لهذه المرحلة رجالها وآلياتها، وهنا يجب أن يختار رجل المرحلة بعناية القوى الأمين. إذن لا بد أن يسبق معول التطهير معول البناء، وقد يقول قائل: وهل نوقف البناء حتى يتم التطهير؟ فأقول: إن المؤسسات والدول والمنظمات عمومًا تتغير وهى تتحرك، وهذا يضيف تحديا آخر على مهندسى إدارة ما يمكن أن نسميه بالتغيير المتحرك الذى يعمل على ضمان أعلى درجة من إحداث التغيير المطلوب، وفى الوقت نفسه يحافظ على توازن البناء التنظيمى لكافة عمليات الدولة أو المنظمة، وهذا هو التحدى! لكن ما حدث وما يحدث حتى الآن يعتبر مبشرًا، ويوضح أن العنصر الأهم فى نجاح عملية التغيير والتحول قد اكتمل، ألا وهو المناخ الإيجابى لقبول عملية التغيير، والإصرار عليها والاستعداد لبذل كل غالٍ ورخيص لاستكمالها لدى جموع الشعب المصرى. إذن المرحلة الأصعب -من وجهة نظرى، التى نحن بصددها الآن- هى مرحلة التخليلة، وإن كانت مرحلة البناء المصاحبة لها جنبا إلى جنب تحتاج إلى يقظة وحسن إدارة وتوفيق من الله لاستغلال مواردنا الكثيرة التى طال إهدارها ونهبها بعيدًا عن إفادة شعب مصر منها على مدى التاريخ. إن مرحلة البناء تحتاج إلى وضع الآليات والنظم والقواعد كافة واستنهاض الطاقات والهمم واختيار القيادات المناسبة، وتهيئة المناخ وضبط إيقاع أجهزة الإعلام والأمن، وتخفيض درجة التشويش والشوشرة إلى أقل ما يمكن، ولعل خطوة التوافق على الدستور وإقرار شعب مصر العظيم له بأغلبية كبيرة (الثلثين تقريبًا) يمثل أول خطوات هذا التأسيس للبناء. أما الخطوة الثالثة، وهى خطوة التثبيت للوضع الأمثل الذى سوف تحققه بإذن الله فى مجالات التنمية كافة، فهذا أمر يحتاج منا إلى حديث آخر. لكن فقط أريد فى نهاية مقالى توجيه كلمة إلى كافة العقلاء من أبناء الوطن؛ لقد آن الأوان أن نلملم خلافاتنا وأهواءنا ومصالحنا الشخصية ونعلى مصلحة الوطن، عيب أن تستمر حركاتنا وأفعالنا وأقوالنا تصب فى مصلحة أعداء هذا الوطن وليس مصلحة الوطن ذاته، إننى أستنهض البقية الباقية من وطنيتكم للتوجه نحو العمل الثورى الجاد والبناء، فهل من مجيب؟؟! ------------------- أ.د. محمد المحمدى الماضى أستاذ إدارة الإستراتيجية بجامعة القاهرة