روى الثعالبى فى (الشكوى والعتاب) والزمخشرى فى (ربيع الأبرار) وغيرهما عن عبد الله بن طاهر أحد قواد الدولة فى عهد الخليفة العباسى المأمون، قال: كنت عند المأمون ثانى اثنين، فنادى: يا غلامُ يا غلام، بأعلى صوته، فلم يجبه الغلام، ثم نادى ثانيا، فدخل غلامٌ تركى فقال: أيُمْنَع الغلامُ أن يأكلَ ويشربَ أو يتوضأَ ويصلى؟ كلما خرجنا من عندك تصيحُ يا غلام يا غلام! إلى كَمْ يا غلام يا غلام؟! فنكَّس المأمونُ رأسَه طويلاً، فما شككتُ أنه يأمر بضرب عنقه، فقال: "يا عبد الله، إن الرجلَ إذا حسُنَتْ أخلاقُه ساءتْ أخلاقُ خَدَمه، وإذا ساءت أخلاقُه حسُنت أخلاق خدمه، فلا نستطيع أن نسىءَ أخلاقَنا لتَحْسُنَ أخلاقُ خَدَمِنا". هذه الحكاية -ولها نظائر كثيرة فى تاريخنا وفى واقعنا- تكشف عن طبيعة نفسية لبعض الناس لا تستطيع أن تتعامل إلا بأخلاق العبيد، إذا أحسنت فى التعامل معهم أساءوا الأدب، وإذا أغلظت لهم القول وأخشنت التعامل استقاموا لك فى تعاملهم، فهم لا يعملون باستقامة إلا فى أجواء القهر والضغط، ومتى عاملتهم بالاحترام والإنسانية استضعفوك وأساءوا معك الأدب، وقد رأيت أحدهم وهو يتكلم بتعال وغرور وانتفاخ ويوزع الشتائم ذات الشمال وذات اليمين على ركاب الحافلة التى كنا نستقلها، حتى أصاب بسفالاته رجلا تبين أنه يحمل رتبة شرطية، ومعه بعض جنوده فأصر هذا الضابط على أن يضربه على قفاه وأن يضرب مؤخرته برجله، فإذا بهذا المنتفخ المنتفش يهدأ بعد أن تلقى الإهانة حتى يصير كالحمل الوديع ويقول له: أوامرك يا باشا!. ألست معى أن كثيرين يحملون أخلاق العبيد تلك وإن كانوا أحرارا؟! وأنه يصدق عليهم المثل العربى "ليس للَّئيمِ مثلُ الهوان" فاللئيم يفسده الإحسان، ويصلحه الهوان، ولله در أبى الطيب المتنبى حين قال: إذا أنت أكرَمت الكريمَ ملكتَه ... وإن أنت أكرمْتَ اللئيم تمرّدا وقال غيره: إن اللئام إذا أذللتَهم صلحوا ... على الهوانِ وإن أكرمتَهم فسدوا ومع هذا فإن التاريخ سيبقى يحفظ الأقدار للأحرار والكرام على احتمالهم وحلمهم وثباتهم على الأخلاق العالية، فالحرّ حرّ وإن مسّه الضرّ، والعبد عبد وإن مشى على الدرّ. ولله در القائل: فإن الذى بينى وبين عشيرتى وبين بنى عمى لمختلف جِدّا إذا قدحوا لى نارَ حرب بزندهم قَدَحْتُ لهم فى كل مكرمة زندا وإن أكلوا لحمى وَفَرْتُ لحومهم وإن هدموا مجدى بَنيتُ لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيسُ القوم مَنْ يحمل الحقدا وأعطيهم مالى إذا كنت واجِدا وإن قلَّ مالى لم أُكلِّفْهم رِفدا لقد تذكرت هذا كله وأنا أتابع حال كثير من كُتَّاب المقالات والإعلاميين الذين أصابتهم نوبةٌ مفاجئةٌ من الشجاعة والجرأة بعد نجاح الدكتور محمد مرسى، فتخصصوا فى الإساءة لرئيس الجمهورية المنتخب، وتطاولوا مستخدمين أشد الألفاظ والعبارات فجاجة، فساء أدبهم تجاه الرجل؛ لأنهم عرفوا حسن خلقه وتمام حلمه فأمنوا عقوبته، وقد قيل "مَنْ أَمِنَ العقوبة أساء الأدب"، وهذا صحيح إذا تعلق الأمر بأخلاق أسافل الناس ولئام الخلق، الذين يلقون الإحسان بالإساءة، ويعتبرون الحلم ضعفا وقلة حيلة، وقد كان بعضهم قبل ذلك إذا عطس رئيس الجمهورية ارتعدت فرائصهم، وكان البعض إذا أحب أن يشير إشارة يسيرة إلى الفساد القائم كتب مقاله تحت اسم مستعار، والأعجب أن بعضهم كان يكتب مقالاته الناقدة فى ظاهرها بالاتفاق مع أجهزة الأمن والفساد، ليقدموا أمام العالم وأمام الجماهير صورة مزيفة للواقع ظاهرها الحرية فى النقد والتعبير، وحقيقتها امتصاص غضبة الجماهير ببعض العبارات المتفق عليها. فخامة الرئيس الدكتور محمد مرسى: لا أزال أدعوك إلى أن تستمر فى سموك وكرمك وعلو همتك ونبل أخلاقك، ولا يحملنك سوء أدب البعض أبدا على النزول عن مكانك الرفيع ومكانتك السامقة، وترفَّع عن سفاسف القوم لتبقى كالنخل الأغر يرميه الصغار بالحجر فيمطرهم بأطيب الثمر، هذا كله فيما يتصل بالناحية الشخصية لسيادتك، والله سبحانه يتولى كف المسيئين عنك (وهو يتولى الصالحين)، والشعب الذى اختارك وأحبك يحملك بين طيات ضلوعه ويدفع عنك كيد أولئك المفترين، وأذكرك بقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. أما حقوق الشعب وهيبة مؤسسة الرئاسة يا فخامة الرئيس فليس لسيادتك الحق فى التساهل بشأنها أو التأخر فى اقتضائها أو التراخى فى إنفاذها، وبذات الروح المخلصة التى أدعوك بها للتجاوز فيما يتصل بشخصك الكريم، فإننى أدعوك إلى الحزم التام والأخذ القوى فى حماية حقوق الشعب، وضرب أوكار الفساد، وتطهير كافة المؤسسات، واسترداد حقوق المظلومين من الشهداء والمصابين، دون أن تأخذك فى الله لومة لائم، فعفو سيادتك فيما يتصل بالناحية الشخصية مقبول مقدر، أما ما يتصل بحقوق الأمة فلا مجال لقبوله. وَوَضْعُ النَّدَى فى مَوْضِع السيفِ بالعُلاَ ... مُضِرٌّ كوضعِ السيف فى موضع النَّدَى ولهذا فالأمة تنتظر من سيادتك الضرب بقوة وحزم على يد الفساد، والله يتولى توفيقك بإذنه إلى ما يحب ويرضى. دعوة للتأمل: ليس بعيدا عما ذكرته من أخلاق الكرام وأخلاق اللئام ما جرى معى منذ يومين حين فوجئت بسيارة كبيرة تسير فى الاتجاه المعاكس فتصطدم بسيارتى، وكان لطف الله بنا عظيما، فقد تحطمت السيارة لكن الله سلم ولم يصب أحد ممن معى ولا من السيارة الأخرى بأذى والحمد لله. المهم أننى نزلت من السيارة واتجهت للسائق المخالف لمعاتبته وأقبل هو يعتذر إلىّ، ثم تذكرت بعد ثوان أن جهاز الهاتف المحمول فى السيارة، فأردت أن أدركه فإذا بأحد المارة قد التقطه وأغلقه فورا وكأنه كان ينتظر فى موقع الحادثة! ولم يَعْنِه وهو يرى الحادثة إلا البحث عما يسرقه! فيا لله العجب من هذه الأخلاق التى تحتاج إلى جهد كبير لتصحيحها، وهو ما يجعل مهمة الدعاة ثقيلة عظيمة؛ لإصلاح آثار الفساد الذى مسخ الشخصية المصرية المعروفة بمروءتها ورجولتها وشهامتها على مر التاريخ. وبالنسبة للجهاز الذى سُرق منى فقد جعلت سارقه فى حِل، وأسأل الله أن يسامحه وأن يهديه إلى الخير، وأن يكون هذا آخر الحرام الذى يمد يده إليه، وأن يهدى إلى كل خير شباب الأمة بمنه وكرمه. لا يكن أحدكم إمعة: الإمعية تعنى أن يكون الشخص مجرد تابع لغيره من غير تفكير ومعرفة، وقد حذر النبى -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فى هذا الخلق الذميم والانجرار وراء الآخرين فيما يدعون إليه، سواء كان خيرا أو شرا، فقال فيما أخرجه الترمذى: ((لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا)). فيا كل حر كريم من أبناء هذا الوطن العزيز، اقرءوا مشروع الدستور وتأملوا ما فيه من مكاسب كثيرة وحقوق عظيمة تحفظ للمصرى كرامته وتساعده على العيش الكريم فى نظام يحترم آدميته ويرتقى به إلى مصاف الأمم المتحضرة فى ظل شريعة الحق والعدل والنور، وبعد أن تقرءوا لا يتأخرن أحد عن الإدلاء برأيه والمشاركة فى صنع مستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده، وأسأل الله أن يكتب لمصر خيرا وأمنا واستقرارا ورخاء. إنه نعم المولى ونعم النصير.