الكبار هم أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عالياً، ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، فتعلوا هممهم عن الدوران في الوحل والحضيض، ويسمون عالياً، فلا يدور الواحد منهم حول نفسه، ترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويعجبه المدح، ويسوؤه الذم. أصحاب النفوس الكبيرة ------------------------ الحمد لله حمداً عدد ما خلق، والحمد له ملء ما خلق، والحمد له عدد ما في السماوات والأرض، ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، تم نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد، تطاع ربنا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتشفي السقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد إلا أنت، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، وأصلي وأسلم على خير رسله محمد -صلى الله عليه وسلم- صاحب الحوض المورود، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً: أيها الإخوة: حديثنا عن أخلاق الكبار، وإنما نعني بالكبار أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عالياً، ويترفعون عن الدنايا وسفساف الأمور، فتعلوا هممهم عن الدوران في الوحل والحضيض، ويسمون عالياً، فلا يدور الواحد منهم حول نفسه، ترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويعجبه المدح، ويسوؤه الذم، يقاطع هذا لأنه ذمه، ويحب هذا لأنه مدحه، ويعادي هذا لأنه جرحه، يدور مع نفسه حيث دارت، يرضى من أجلها، ويسخط من أجلها، يحب لها، ويغضب لها، فهذا صاحب نفس دنية، رضي بأن يكون مع نفسه في الهاوية، وحرم نفسه جنة قبل جنة الآخرة وهي انشراح الصدر، والأنس والسعادة التي تحصل بالترفع والعلو عن الدنايا وسفساف الأمور؛ هؤلاء هم الكبار الذين سنتحدث عنهم، هم أصحاب النفوس الكبيرة، ولا أعني بالكبار هم من تقدم بهم السن، وطال بهم العمر، ولا أعني بهم من تبوؤوا المناصب العالية، وحصلوا الرتب الرفيعة، إنما أتحدث عن أصحاب نفوس كبرى، وصدور واسعة، لا يلتفتون إلى أنفسهم، ولا يقفون عندها، وإنما تعنيهم المصالح الكبرى للإسلام، فهؤلاء حري بنا أن نتحدث عن أخلاقهم وأوصافهم، وأن نشيع هذا الحديث، وهذا الموضوع أطرحه لشدة الحاجة إليه، فنحن بحاجة إلى مذاكرته لأننا كثيراً ما نغفل عن هذه المعاني، فكم من محبة تحولت إلى عداوة، وكم من شراكة في عمل دنيوي أو في عمل دعوي قد تشتت وتشرذمة، وكم من علاقات قد تقطعت أواصرها بسبب تدني النفوس، والوقوف عند حظ النفس، فيرضى الإنسان لأجلها، ويغضب لأجلها، يكون الإنسان منتصراً لنفسه على أي حال كان، ولا يقبل من أحد أن يصدر منه تجاهه خلل ولا تقصير ولا نقص؛ وإن حصل شيء من ذلك فلا عفو ولا مسامحة، ولا تذكر لصنائع المعروف القديمة؛ وأواصر المحبة والروابط التي جمعت بين هؤلاء المتحابين ينسى ذلك جميعاً، وينقلب رأساً على عقب مبغضاً شانئاً لهذا الإنسان الذي تصور أنه تنقصه، وأنه قصر في حق من حقوقه، فلماذا هذا التدني؟ لماذا يجعل الإنسان نفسه بهذه المثابة؟ أقول -أيها الإخوة-: هو الركون إلى أصل خلقته ومادته الأولى التي خلق منها وهي الطين، فالإنسان خلق من عنصرين اثنين: قبضة من الطين، ونفخة من الروح، فإذا ركن الإنسان إلى أصل مادته وهي الطين فإنها تجذبه وتشده إلى أسفل، فتتدنى أخلاقه وتسوء، ويصدر منه ما لا يليق، وما يخجل العاقل منه إذا تبصره وتذكره، وإذا كسر الإنسان هذه الآصار والقيود والأغلال حلق عالياً، وارتفع وتسامى بأخلاقه فتجاوز نفسه، وجعلها خلف ظهره، فلم يعد ذلك الإنسان الذي ترضيه الكلمة، وتسخطه الكلمة، يتجاوز هذه المرحلة ثم بعد ذلك يتعامل مع الآخرين بصدر واسع، وبنفس كبيرة، فيتحمل منهم الصدمات والكدمات والأخطاء والعيوب؛ ويتحمل منهم كل ما صدر تجاهه من تقصير في حقه الخاص، ولا يصلح لمن أراد أن يحصل المراتب العالية إلا هذه الأخلاق، وهذا الأمر حينما نتحدث عنه لا نوجه الحديث إلى قوم آخرين إنما أوجه الحديث إلى نفسي أولاً، وأوجهه إليكم ثانياً، فلا يظنن أحد أن الخطاب بهذا الموضوع يراد به غيره، بل أحضر قلبك، وفكِّر في حالك، وكن ممن يسمع لينتفع وليغيِّر، فجدد حياتك، ونقِّ أخلاقك، وقوِّم سلوكك، وارجع إلى أهلك من هذه الليلة بوجه جديد وارجع إلى أصحابك وقومك بوجه جديد وبنفس أخرى تتجاوز هذه الحظوظ الشخصية النفسانية التي تجعلك صغيراً هذا الموضوع يخاطب به العلماء، ويخاطب به طلاب العلم، ويخاطب به الدعاة إلى الله -عز وجل-، ويخاطب به أصحاب الولايات من الملوك والرؤساء والأمراء وكل من له ولاية صغرت أم كبرت، ويخاطب به الآباء والأمهات، ويخاطب به المربون والمعلمون وعامة الناس، يخاطب به كل طالب من طلاب الكمال، لا أحد يرضى بحال من الأحوال أن يوصف بدناءة النفس، و صغر الهمة وانحطاطها، يعيش في عطن ضيق، ونفس صغيرة، لو وجهت هذه الأوصاف لإنسان لغضب منك، وما احتمل ذلك وأباه كل الإباء، وهذا يعني أن الجميع يتفقون على استحسان هذه الصفة، وهو الشأن في الحديث عن قضايا الأخلاق، فهو حديث جميل شيق تعشقه النفوس وتنجذب إليه، ولو كانت دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- منصبة على الأخلاق فحسب دون القضايا الأخرى الكبرى ( وهي قضايا التوحيد والشرك ) لهتف الناس جميعاً يؤيدونهم ويتبعونهم لأنه حديث يوافق عليه الجميع، فهو حديث يوافق عليه الموالف والمخالف، وكل الناس يستحسنون ذلك ويعشقون سماعه، ولكن التطبيق شيء آخر التطبيق هو المحك الذي تتبدى فيه معادن الناس، وتنجلي فيه النفوس وتظهر حقائقها، فليست العبرة بأن يستحسن الإنسان سماع خلق حسن، إنما العبرة بالعمل والتطبيق. ليست الأحلام في حال الرضا *** إنما الأحلام في حال الغضب فليست الأخلاق الفاضلة أن توزع ابتساماتك في حال الرضا مع أصحابك وجلسائك؛ إنما الأخلاق الصحيحة الحقيقة هي أن تسموا بنفسك في جميع الظروف والأحوال، وتترفع عن الدنايا وسفساف الأمور، وهذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها، وقد وصف الله -عز وجل- نفسه وسمى نفسه ب" العَفُوْ"، والعفو صفة من صفاته وهي صفة عظيمة كريمة تعني التجاوز عن الذنب والزلة، وعدم المؤاخذة بالجريرة، وترك المعاجلة بالعقوبة، فهو عفو حليم كريم يحب العفو، نسأله -تبارك وتعالى- أن يتغمدنا جميعاً بعفوه وكرمه ولطفه وحلمه. أيها الإخوة: ينبغي لكل واحد منا أن يسأل نفسه بعدما عرف توصيف هذه الخلة: هل هو من أصحاب النفوس الكبيرة؟ هل هو متحلٍ حقيقة بهذا الوصف ، أم أنه قد قصر في هذا الباب تقصيراً بيناً، فأدى ذلك، وأثر أموراً سيئة مستهجنة من عداوات وأحقاد، وتربص بتصفية الحسابات مع هذا أو ذاك؛ وكثيراً ما يختلط علينا الأمر بين الانتصار للدين وبين الانتصار للنفس، فأحياناً يخرج الإنسان غاضباً يريد الانتصار والانتقام، ويريد الإيقاع بخصومه ومخالفيه، ويخرج بوجه مكفهر، وهو بذلك قد تلبس وتدثر بدثار يقول فيه إنه ينتصر للدين والعقيدة والإيمان، ويفعل ذلك غيرة على شرائع الإسلام، فيلتبس الأمر عليه بين الانتصار لنفسه وبين الانتصار لدين الله -تبارك وتعالى- كما يلتبس كثيراً علينا أمر العزة وأن المؤمن عزيز فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، كثيراً ما تلتبس هذه العزة عزة النفس مع الانتقام والرغبة في الاقتصاص ممن جنى علينا بعض الجنايات، فلربما صدر منا ما لا يليق تحت مظلة "عزة المؤمن"، وأنه لا يقبل الضيم ولا يرضى بالذل، وأنه ليس من الهوان في شيء، فينتصر لنفسه، ولربما بالغ في الانتصار تحت مسمى "عزة المؤمن" وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [سورة الشورى:39]، وما علم أن جميع الآيات القرآنية تذكر فضل العفو والصفح والمسامحة والإغضاء وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت: 34] ولكن من يطيق ذلك وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت: 35] ويأتيه الشيطان يحركه لينتصر لنفسه زاعماً أن ترك هذا الانتصار من العجز والخور، وأن الناس يعيرونه بالضعف ويلمزونه بالنقص وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت: 36] فهذه الآيات خاطبنا الله -عز وجل- بها من أجل تقويم هذا السلوك، وتصحيح المفاهيم، وما هو الواجب المتعين على الإنسان؟ وما هو الفضل؟ وكيف يرتقي الإنسان بنفسه؟ وكيف يغلق على الشيطان مسالكه فلا يفسد عليه ما يرنو إليه من إصلاح القلب والعمل؟ أيها الإخوة: سأذكر لكم نماذج كثيرة تدلل دلالة أكيدة على أن ثمة قصوراً كبيراً وخللاً واضحاً على جميع المستويات ، وفي جميع فئات المجتمع -إلا من رحم الله عز وجل-، أمثلة تبين لك حالنا مع حال أولئك الذين قد ربوا أنفسهم وتجاوزوا حظوظ النفس، ولم أعتن في هذا الحديث بالكلام على خصائص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب، فهي خصائص كبرى، وأخلاقه -صلى الله عليه وسلم- ملخصة لنا بعبارة مختصرة " كان خلقه القرآن " كما قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها -، فماذا تظن في رجل كان خلقه القرآن إلا اتساع الصدر، ومجاوزة حظوظ النفس، والترفع عن الأخلاق الدنيئة السافلة الهابطة، فلو تحدثنا عن أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما وسعنا هذا المجلس، ثم إن تخصيص الحديث عن أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب خاصة لربما يكون مدخلاً لقائلٍ حيث يقول: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نزع الله -عز وجل- منه حظ الشيطان، وهو صغير صبي مسترضع في بني سعد، أخرج منه علقه حينما شق صدره -صلى الله عليه وسلم-، ثم شق صدره -صلى الله عليه وسلم- ثانية في قصة الإسراء والمعراج، وغسل قلبه -صلى الله عليه وسلم- ولغاديده بماء زمزم في طست من ذهب فطهر تطهيراً، فمن كان بهذه المثابة فلا شك أنه أعظم الناس خلقاً، وأكثرهم حلماً، وأطيبهم نفساً، فقد يحتج محتج فيقول: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد طهره الله هذا التطهير فأنى لنا بذلك؟ ولهذا ذكرت نماذج أخرى من حال سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- في أبواب شتى لئلا يكون لمعترض اعتراض أو حجة، والمقصود هو أن نعالج النفوس -أيها الإخوة-، ونقطع دابر الشيطان، فأقول: ذكرت نماذج قليلة مع غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم ، كما سترون في أمثلة أوردها هنا ، اختبر نفسك حينما تختلف مع قوم في مسائل علمية من قضايا الاعتقاد من أهل الأهواء والبدع والضلالات، فهؤلاء كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة أن من كان الإيمان منخرماً في قلبه فإنه لا محل لموالاته لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة المجادلة: 22]، فالكافر لا محل لموالاته، وأما من جمع بين عمل صالح وسيء في باب الشبهات والبدع والضلالات، أو في باب الشهوات كالمعاصي؛ فإن هؤلاء يتجزأ الولاء والبراء معهم، فعقيدة أهل السنة والجماعة محكمة في هذا الباب وهي: ( أن نحب الإنسان على قدر ما فيه من الإيمان وإتباع السنة؛ ونبغض الإنسان على قدر ما فيه من الانحراف والضلال والبعد عن طاعة الله -عز وجل-)، ويختلط علينا الأمر حينما نقف وجهاً لوجه مع من ابتلوا بشيء من التقصير في حق الله -عز وجل- بسبب شبهة أو شهوة، فيظن الظان أنه أحياناً يتصرف التصرف الشرعي انتصاراً للدين، والواقع أنه ينتصر لنفسه، ولربما قال بعض هؤلاء في حق فلان من الناس قولة لا تليق، ولربما أساءوا إليه ووقعوا في عرضه فبلغه بذلك فشمر عن ساعد الجد ينتصر لنفسه، ويجلب عليهم بخيله ورجله وهو يزعم أنه ينتصر للدين، ويدافع عن التوحيد والعقيدة والإيمان، وقد يكون الأمر خلاف ذلك؛ فهو يدافع عن حظه وشهوته ونفسه. من أصحاب النفوس الكبيرة: ****************** زين العابدين علي بن الحسين -رحمه الله تعالى ريحانة العابدين زين العابدين علي بن الحسين -رحمه الله- من أكابر التابعين، كان في مجلسه وعنده أصحابه من العلماء والأشراف والوجهاء وجميع طبقات المجتمع في مجلس حافل لأنه رجل عالم وهو أبو الفقراء، يصدع للناس في نوائبهم، فكان جالساً وكان بينه وبين بن عم له وهو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب شيء مما يكون بين الناس، فلم يتمالك حسن بن حسن نفسه، وخرج عن طوره، وجاء يبحث عن زين العابدين، فوجده جالساً مع أصحابه في المسجد، فجاء إليه وما ترك شيئاً إلا قاله في حقه من الشتم وقبيح القول، وعلي بن الحسين ساكت لا يرد بشيء، فلما تشفى منه انصرف، ثم ذهب علي بن الحسين بعد أن أكمل مجلسه إلى بيته، فلما كان الليل ذهب زين العابدين إلى بيت حسن بن حسن، وفي مثل هذه المواقف المتوقع أنه يخفي تحت ثيابه ما يؤدبه به، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل جاء إلى بيته، وطرق عليه الباب، فلما خرج حسن بن حسن قال له: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم، وتركه، فهشمت هذه الكلمات العداوة المستحكمة في نفس حسن بن حسن، ولم يتمالك مشاعره، فتحولت مشاعر العداوة والبغض والكراهية والغضب إلى مشاعر أخرى معاكسة، فجعل يتبعه ويجري خلفه، والتزمه من خلفه، وجعل يبكي حتى رثي له، ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال له علي بن الحسين: وأنت في حل مما قلت لي. في ليلتها لم يذهب ليتكلم ويبحث عن فرص الانتقام، فهل تفعل ذلك إن جاءك إنسان وشتمك وكنت في مجلس مناسبة أو في صالة أفراح فتسلط عليك إنسان، وأسمعك قبيح القول، فما موقفك من هذا الإنسان، إن كنت من أصحاب النفوس الكبيرة فستتجاوز النفس، ولهذا كان بعضهم يقول لمن يشتمه، ويبالغ في شتمه: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. * الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى لو أن إنساناً اعتدى عليك مباشرة بالضرب، أو الجرح، أو حاول قتلك، أو دس لك السم، أو غير ذلك، فكيف تصنع معه؟ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خامس الخلفاء الراشدين مرض مرض الوفاة، وسأل مجاهداً قال: ما يقول الناس في مرضي؟ قال: يقولون مسحور، قال: لا، ثم دعا غلاماً قال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم، يريد أن يبين له السبب؟ فقال: ألف دينار أعطيتها، وأن أعتق، فقال: هاتها فأخذها، ووضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب فأنت حر، لا يراك أحد. هذا سم الخليفة، ويعرف أنه هو الذي فعل هذا، واعترف فماذا صنع به؟، قال له: اذهب فأنت حر. * الإمام مالك بن أنس -رحمه الله تعالى والإمام مالك -رحمه الله- ضرب وجلد حتى تخلعت يداه، وكان يصلي مسبل اليدين لما يجد من الألم، فلما جاء المنصور الخليفة العباسي وحج، وجاء إلى المدينة أراد أن يتجمل عند الإمام مالك، فطلب من الإمام مالك أن يقتص ممن حبسه وضربه وهو جعفر بن سليمان، فماذا قال الإمام مالك؟ هل قال: فرصة لا يمكن أن تضيع؟ لا، بل قال: معاذ الله، ما قال هذا واحد من الظلمة نقتص منه ونؤدبه، لا بل قال معاذ الله الكبير لا ينتقم لنفسه ولهذا ما انتقم النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه قط * * وخذ مثالاً آخر: دخل رجل يسأل فغضب ابن هبيرة، وقال للحاجب: أما قلت لك: أعط هذا عشرين ديناراً، ووقراً من الطعام، وقل له: لا تحضر عندي، فقال: قد أعطيناه، فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر، فلما انصرف الرجل، قال ابن هبيرة لأصحابه: هل عجبتم من هذا الجواب، والرد الذي رددت به، قالوا: نعم، قال: هذا الرجل الذي رأيتم قبل قليل كان شحنة في القرى - يعني أنه من الحاشرين، يرسل ليحضر أناس في قضية في جناية في تحقيق فيأخذ رؤساء القبائل، ويأخذ وجهاء البلد أو القرية ويحضرهم للسلطان، فكان شحنة في القرى -، فقتل قتيل في ناحية البلد التي فيها ابن هبيرة، فجاء هذا الرجل فأخذ مشايخ القرى، وأخذ ابن هبيرة مع الجماعة، وابن هبيرة على قدمه والرجل على فرس، فجعل يؤذي ابن هبيرة، ويمشيه مع الفرس، ثم ربطه وأخذ من كل واحد من هؤلاء قدراً من المال وسرحهم -والمسألة فوضى-، ثم جاء لابن هبيرة وقال: هات ما معك، قال: ما معي شيء، يقول: فانتهرني وضربني مقارع على رأسي، يقول: ولم أنقم عليه شيئاً من ذلك، لكني كنت أستأذن أن أصلي الفرض فأبى أن يأذن لي، فأنا أنقم عليه لأنه رفض أن يسمح لي بالصلاة - صلاة الفريضة -، حيث أدركتني في الطريق، يقول: وبعد ذلك جاء به ابن هبيرة وولاه على بعض العمل في إصلاح معايش الأمراء - يعني أملاكهم الخاصة - يديرها، فما انتقم منه ولم يقل: هذه الفرصة ذهبية.. لا، بل أعطاه وأكرمه وما انتصر لنفسه منه. واشترك ابن هبيرة هذا صاحب القلب الكبير قديماً قبل الوزارة مع رجل أعجمي في زراعة فوقع بينهما شيء، فقام هذا الأعجمي وضرب ابن هبيرة ضرباً مبرحاً، فلما ولي الوزارة استدعاه، وتوقع هذا الأعجمي التأديب والتعزير والانتقام، بل والقتل، فلما جيء به؛ أعطاه ووهب له وولاه ولاية، يقول عنه تلميذه ابن الجوزي -رحمه الله-: كان يملي علينا كتاب الإفصاح، فجاء رجلان أحدهما قد أسر الرجل الآخر، يقوده معه يقول: هذا قتل أخي فأقدني منه، أريد أن أقتص!! فقال: ابن هبيرة أقتلته، قال: نعم، جرى بيني وبينه مشادة فقتلته، فقال الخصم: سلمه لي، فقد أقر بالقتل، قال ابن هبيرة: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك وقد قتل أخانا؟، قال: فبعه لي!! فاشتراه منهم بأضعاف الدية بستمائة دينار، وسلم الذهب لهم، فلما ذهبوا قال له: اجلس، فجلس عنده، وأعطاه خمسين ديناراً، ثم ذهب، فتعجب ابن الجوزي ومن معه وقالوا: كيف تصنع مع هذا؟ رجل قتل إنسان، ادفعه إليهم يقتلونه، فلماذا تبالغ في رفع الدية؟، وتعوضهم هذا التعويض، ثم تعطيه؟ فقال: هل تعلمون أني لا أنظر بعيني اليمنى منذ أربعين سنة؟ قالوا: لا، قال: هذا الرجل مر بي قبل أربعين سنة، ومعه سلة فاكهة، فقال: احملها وكان معي كتاب في الفقه، فقلت: ليس هذا بعملي ابحث عن حمال، يقول: فغضب ولطمني وضربني، وقلع عيني ومضى، ولم أره إلا هذه الساعة"، فلاحظ الآن: هذا الرجل قاتل، يقتص منه؛ والحمد لله، فإنك لن تقتص أنت منه، ولن تقتله ولن تنتقم لنفسك بل دعهم يقتصون، يداك أوكتا وفوك نفخ، جنيت على نفسك والحمد لله الذي أوقعك بسوء عملك، لا بل فداه وأعطاه وأكرمه، فمن منا يفعل ذلك، يقول: " أردت أن أقابل إساءته بالإحسان ". لو صادفت سباباً شتاماً في مكان في مدرستك أو في عملك في السوق؛ فقال لك كما قال رجل للأحنف بن قيس: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً!! فماذا قال الأحنف بن قيس؟ قال: لكنك إذا قلت عشراً لن تسمع واحدة قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم *** إن الجواب لباب الشر مفتاحُ فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب *** وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ إن الأسود لتخشى وهي صامتة *** والكلب يحثى ويرمى وهو نباحُ وأنت أيها القارئ : كيف تتصرف حينما يتصرف أحد المدعوين نحوك بتقصير أو بكلمة أو بفعل لا يليق؟ أتعاديه وتجانبه وتجفوه، أتأمر أصحابك أن يقاطعوه ويهجوه ويهجروه، أتتخذ منه موقفاً: هو في سبيله وأنت في سبيلك من أجل نفسك، إن هذا لا يليق أيها الإخوة. أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: " كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(2)، ولو ضربك أحد من المدعوين فأدماك ماذا تقول عنه؟ تدعو عليه، تلعنه، تضربه، لكن انظر إلى قول هذا النبي: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. أنت أيها المسؤول، أيها المدير في المدرسة أو في الشركة؛ إذا جاءك أحد المراجعين وتكلم بنفس مشحونة، وبلغة مستعلية، يتكلم معك كأنك أجير عنده، فكيف تصنع؟ جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فجذب ردائه حتى أثر في رقبته يقول: "أعطني فإنك لا تعطيني من مال أبيك ولا أمك"، وهذه لو قالها لأحد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لسبقه رأسه قبل أن يكمل هذه الأحرف، فماذا صنع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ هل عاداه واتخذ منه موقفاً؟ لا.. أبداً بل أعطاه وأعطاه وأعطاه حتى رضي، وهذه أخلاق الأنبياء. هذه أخلاق يتربى عليها الجيل، ويتربى عليها الصغار، يعيشون في كنف هؤلاء بنفوس أبية عالية، يجدون من يحتضنهم، أما أن نكفهر في وجوه إخواننا، وأن نعاملهم معاملة فظة بصلافة فهذا لا يكون. أيها الإخوة من أصحاب النفوس الكبيرة ----------------------------- مما راق لي واحببت ان انقلة لكم للاستفادة مقتطف بتصرف من مقالة فضيلة الشيخ/ خالد بن عثمان السبت تحت عنوان :- أخلاق الكبار