الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب من علماء الأزهر الشريف، والعضو السابق بمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين تحدثنا فى مقال أمس عن ثلاثة من أهداف الزكاة، وفى هذا المقال نكمل حديثنا عن بقية الأهداف: 4- فى عالم التطبيق: حينما أدرك أبو بكر الصديق رضى الله عنه هذه المعانى الجليلة تبرع بكل ماله، وحين سئل ماذا تركت لعيالك قال: تركت لهم الله ورسوله، وتبرع عمر رضى الله عنه بنصف ماله، وتبرع عثمان رضى الله عنه بمعظم أمواله، وتبرع عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه بثلث ماله، وكان صلى الله عليه يتبرع بكل ما كانت تصل إليه يديه، وكان فى رمضان كالريح المرسلة كرما وجودا وعطاءً. 5 – تطهير النفس: من صفة البخل، والبخل أحد المهلكات، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) وقال تعالى: {شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إن البخل مجبنة مزرية، تدع صاحبها بين الناس مسلاة وسخرية، وتضعه فى سجن من الحرمان مظلم الجنبات، متماسك اللبنات، وتحلّه من أولاده وأقاربه ومعارفه مكان البغض والكراهية، يستعجلون رحيله ويستبطئون حياته، ويتمنون وفاته، ولا أدرى لمن يعيش البخيل ؟ وما فائدة وجوده فى هذا الجو المشحون حوله بالذل والكراهية والضياع، وهيهات أن يصبح شجرة مديدة الظلال مشرقة الثمر والإيناع، ألا أن يصطنع الجود والسماحة والصلة والبر والتعاون بين الناس، ولا يشده إلى هذه الجداول الصافية، والمزايا السامية، إلا إذا اعتاد تقديم الزكاة وإعطاء الصدقات لا سيما فى شهر رمضان . 6 – تقديم صورة من الشكر صادقة: وفاء لما أنعم الله به من قدرة على أداء الزكاة فى المواسم المناسبة لها، وترجمة مادية عن إحساسه بصنيع الله، وجعل يده أداة إرسال لا أداة استقبال، يد تبعث الاطمئنان والرضا، وتمسح القلق ومضاضة الانتظار عن نفوس الجوعى والمحرومين، فى شهر حرم الكل فى نهاره ما كان مباحا ومستساغا وشهيا . 7 – الوفاء بالدين قبل حلول أجله: أدب رفيع لا يستأهله إلا من خصهم الله برضاه، وجملهم بتوفيقه، وزكاة الصوم من رمضان لها نهاية لا تصلح بعدها لسد باب الفريضة، قال الرسول الكريم صلوات الله عليه " فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهى زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهى صدقة من الصدقات" والمراد بالصلاة فى الحديث الشريف صلاة عيد الفكر، ووقت إخراجها يبتدئ من هلال رمضان، ورمضان كله وقت لها، فمن بادر بإخراجها قبل نهاية الشهر، إظهارا للرغبة فى الامتثال، وفرحا بأداء ما عليه من دين، وتخلصا مما عساه يحدث من مفاجآت الأحداث، وغوايات الشيطان، وخروجا من حرج العصيان عند التأخير، وإدخالا للسرور على نفوس الفقراء، وتطهيرا لقلوبهم من الحقد على الأغنياء والمقتدرين، ومكافحة لعوامل الخمول والكسل وتعاطفا وارتباطا بين طبقات المسلمين، وتجميعا لهم حول مائدة العيد إخوانا متحابين، لا يشغلهم فى يوم العيد إلا لقاءاتهم فى مواكب التكبير وتجمعات الصلاة، وتصافحهم فى الزيارات والطرقات باسمين هانئين . فمن تعود التبكير فى أداء الزكاة تعود التبكير فى أداء واجباته فى مختلف شئونه الدينية، ومعاملاته الدنيوية، ومن استطاع التخلص من حب المال، وآثار حب الله عليه، وقدم الوديعة لأصحابها قبل أوانها، صار فى حياته مطبوعا بطابع الوفاء، ومثالا كريما لتعاليم الإسلام، وحسبنا فى هذا المقام حديث قدسى عن رب العزة حيث يقول "الفقراء عيالى والأغنياء وكلائى، فمن بخل بمالى على عيالى أذقته النار ولا أبالى" ولعل بعض العلماء لم يرتكب شططا حين قال: إن الفقراء أصحاب فضل على الأغنياء حين يقبلون منهم الزكاة، لأن الزكاة ثمالات الذنوب، فإذا لم تجد هذه الثمالة، من يقطعها عن أصحابها شربوا من الماء الآسن، وعاشوا فى ضباب قاتم . لهذا لا ينبغى لمخرجى الزكاة أن ينظروا إليها بعين المبالغة والاستعظام حتى لا يكتنفهم الزهو والعجب، والزهو مهوى الضياع، وطريق التهلكة، فما أحقهم بالتواضع، وأجدرهم بالخجل حين يقدمون للفقراء النصاب المحدود فى أقل مراتب البذل، وهم يعلمون أن من المسلمين من تبرعوا بكل ما لهم، غير تاركين لأولادهم وأهليهم شيئا، وفى مقدمتهم أبو بكر .. ويرضى الله عن عائشة، فقد جاءها يوما مائة ألف درهم فوزعتها جميعا على الفقراء، وهى يومئذ صائمة، فقالت لها أم ذرة . أما استطعت فيما أنفقت أن تشترى بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ فقالت لو كنت ذكرتنى لفعلت . وإذا كانت الزكاة عينية فيجب أن تكون أجود أنواعها، قال تعالى (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقال أيضا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) ناهيا ومحذرا من التصدق بالتالف والخبيث . ولعل تطور أساليب الكسب، وتغير الأنظمة الحكومية، واستخدام الآلة قد غير من صفات الاستحقاق وأسقط من الحساب بعضا آخر، وأمن قسما ثالثا على عيشه ورزقه، مما جعل مخرجى الزكاة فى وضع يحملهم على الدراسة والبحث عن حالة المستحقين، ولعل أقربها إلى الرضى والقبول والثواب، أعطاء الفقراء المستقيمين الأتقياء الصادقين فى تقواهم، المخلصين فى عبادتهم، المتفرغين لتجارة الآخرة، قال الرسول صلوات الله عليه "اطعموا طعامكم الأتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين" وقال أيضا "لا تأكل إلا طعام تقى ولا يأكل طعامك إلا تقى" وكذلك أعطاء أهل العلم الفقراء، لاشتغالهم بأشرف أنواع العبادة، وقد كان رسول الله صلوات الله عليه يتعهد أهل الصفة، ويكفلهم من ماله، ويقوم على خدمتهم بنفسه إجلالا لتقواهم . ولعل أفضل المستحقين وأحقهم بعد ذلك من صان ماء وجهه عن ذل السؤال، ومنعته عزة نفسه من التسول، لا يسأل إلا ربه، ولا يشكو بثه وحزنه إلا لخالقه، قال تعالى فى أمثالهم _يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) فأين هؤلاء المتعففون من هذه المخلوقات التى تتخذ السؤال وسيلة للكسب، وطريقا للعيش، بل جادة للادخار والإثراء، رغم تظاهرهم بالفقر وإسرافهم فى مظاهره، وقد يصبح العطاء زكاة وصلة رحم، وذلك عندما يعطى المزكى صدقة الفطر وغيرها لقريب فقير "والأقربون أولى بالمعروف" وعلى الرغم من أن الزكاة حق معلوم، فرضه الله فى أموال الأغنياء للفقراء، دون من أو أذى، وأن إخراجها أمر لابد منه، لتطهير رأس المال من شوائب الاستثمار وأدران حب المال . على الرغم من كل ذلك، فإنه ينبغى لمستحقى الزكاة شكر المخرجين لها، تشجيعا وتأدبا وتوثيقا لوشيجة الأخوة والحمية الإسلامية، وعملا بحديث سيد الأنام "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فادعوا لله حتى تعلموا أنكم كافأتموه" وقال أيضا "من لم يشكر الناس لم يشكر الله". أما شكر المستحقين لربهم على ما ساقه الله إليهم على يد أبناء المسلمين فهو فى غير حاجة إلى تنبيه أو حث للقيام به، فالله الخالق الرازق، وحول وحدانيته يجب أن تتجه القلوب بالعبادة وتلهج الألسنة بالشكر على نعمائه وآلائه.