أ.د. محمد المحمدى الماضى أستاذ إدارة الأعمال بجامعة القاهرة إن الفساد الذى انتهى إليه عهد مبارك لم يشهد له التاريخ المصرى مثيلا؛ فلقد تراكمت المفاسد على مدى ثلاثين عاما رأسيا وأفقيا؛ لتصبح مفاسد بعضها فوق بعض، وخاصة فيما يتعلق بالتغلغل العميق والمنهجى لإعادة بناء مفاصل الدولة المصرية على معايير ومقاييس تحقق بالدرجة الأولى المصالح الصهيوأمريكية، لقد كانت شخصية مبارك مثالية فى الانصياع التام للمصالح الصهيوأمريكية؛ لدرجة جعلته أقرب هو ونظامه لوكيل يعمل بجد وإخلاص لصالحهم وليس لصالح شعبه...!. إن المعايير المتعارف عليها لاختيار القيادات الرشيدة والكفء لتولى المناصب الرفيعة وشبه الرفيعة بالدولة قد تلاشت فى عهده بشكل شبه تام، ولقد حل بدلا منها معايير دولة الفساد التى قاد فيها عمليات الاختيار جهاز أمن الدولة فى تحالف شيطانى مع كبار فسدة الحزب الوطنى الحاكم، الذين أصبحوا يسيرون بشكل مباشر أو غير مباشر فى الفلك الصهيو أمريكى. لقد تحولت كافة المؤسسات الحكومية وخاصة فى تعيين قياداتها والموظفين الفاعلين بها إلى نظام أقرب ما يكون لنظام العائلة، حيث كان الديدن فى التعيينات هو اختيار عائلى محض؛ لدرجة أنك إذا دققت النظر فى كل هذه المؤسسات سوف تكتشف شبكة عنكبوتية عائلية متصلة ومسيطرة، ورأس العائلة يبدأ من رئيس الدولة؛ مبارك نفسه، المثل الأعلى الذى مهد لنظام سيطرة العائلة بشكل معلن وواضح وانتهى بنظام التوريث. ثم قلده كافة المسئولين الكبار ابتداء من رئيس الوزراء، فالوزراء فرجال الأمن وخاصة أمن الدولة والمخابرات، وكبار جنرالات الجيش والشرطة عموما، حيث دفعوا بزوجاتهم، وأبنائهم، وأقاربهم، والمقربين منهم، والمعارف الثقات، لكافة المناصب المفصلية والحساسة فى الدولة، ولا يزال هذا الأمر هو السائد حتى هذه اللحظة!. ولم تسلم من ذلك باقى الأجهزة الأخرى المهمة وحتى غير المهمة فى الدولة بما فيها جهاز القضاء نفسه، الذى كان مستهدفا اختراقه وترويضه بشكل مكثف فى أواخر عهد مبارك، بعد أن كان حصنا يقف بقوة لممارساته الظالمة؛ ولقد تم ذلك إما بغرس بعض الأفراد المسيسين الموالين بقوة للنظام، وإما بغرس دوائر بعينها فى كل محكمة تستخدم وقت اللزوم، أو بالاثنين معا، مع استخدام كافة وسائل الترغيب. إن الناظر إلى عمق دولة الفساد فى عهد مبارك سوف يجد أنه قد بلغ أقصى مداه رأسيا وأفقيا؛ حتى وصلت إلى نهب الأموال المخصصة لدعم الفقراء فى كافة الخدمات والسلع التى يمكن أن تخفف عنهم بعض معاناة الحياة، مثل دعم التعليم، أو العلاج، أو رغيف العيش، أو الوقود وغيرها من السلع والخدمات المنهوبة التى اتضح أن ما كان يخصص للدعم كان يذهب أكثر من 70% منه لجيوب الفاسدين من أركان ولصوص النظام السابق، ولو تحدثنا عن ملف كالوقود فإن المنهوب منه يوميا حسب حديث ل د. باسم عودة مسئول الملف منشور فى "الحرية والعدالة" عدد الخميس 11/10/2012 يقدر بمبلغ 50 مليون جنيه يوميا.. ناهيك عن الدقيق والتعليم والعلاج المدعوم، أما عن الشركات الإنتاجية والتى تمثل قاعدة صناعية سبقت كثيرا من الدول التى بدأت بعدنا فى الصناعة بعشرات السنين ثم سبقتنا، فإن هذه القاعدة لم يتم الاكتفاء ببعض الفساد الإدارى بها، بل تم نهبها وتدمير إمكاناتها الاقتصادية الكامنة، وتفريغها من أى قدرة إنتاجية تنافسية أو حتى تحافظ على بقائها، ولو بمجرد دفع المصروفات المتغيرة وأقلها أجور العاملين. لقد تعرضت هذه القاعدة الصناعية لتدمير مضاعف وممنهج لتفريغها من أى ميزة تنافسية كقاعدة صناعية متكاملة تمثل أساسا لبناء نهضة صناعية حديثة كانت أقرب ما يكون لتجعلنا فى مقدمة دول مثل كوريا الجنوبية وإسبانيا ولا أقول البرازيل، وتركيا، وماليزيا، والهند، فهؤلاء جميعا قد بدءوا نهضتهم الصناعية بعدنا بعقود. ومما لا يعرفه الكثيرون أن اليابان نفسها قد أرسلت بعثة لمصر للاستفادة من تجربتها الصناعية فى عهد محمد على!. إن المفاسد قد تراكمت بعضها فوق بعض، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو قضائية، أو اجتماعية، أو إعلامية، أو أخلاقية، أو دينية. ولقد عمقه وخطط له بعناية ورعاه الشريك الصهيو أمريكى حينئذ ليصل بمصر إلى أعلى درجة من درجات انعدام التنافسية وليخلق طبقة جديدة من الفاسدين ترتبط مصالحهم بشكل عضوى مع استمرار هذا الفساد، ويكون بمثابة أداة تحارب بقوة كل من يحاول الاقتراب من تهديد مصالحهم، ومن ثم يصعب على أى نظام يمكن أن يخلف نظام مبارك ويحاول العودة بمصر إلى دولة قوية خالية من الفساد. ولعل قراءة تلك الفقرة من خطاب قائد المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق "عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية "أمان" ذكر خلال مراسم تسليم مهامه للجنرال "أفيف كوخافى" فى أكتوبر 2010 يوضح ذلك تماما بما لا يدع مجالا للشك؛ حيث ذكر: "إن مصر هى الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلى، وأن العمل فى مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979" وأضاف اللواء يادلين وفقا لما نقلته مواقع فلسطينية ولبنانية عدة: "لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والافتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما، ومنقسمة إلى أكثر من شطر فى سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك فى معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى مصر". ومن هنا يتضح أن ما نراه الآن من مظاهر مقاومة ضارية من هؤلاء الفسدة للنظام الثورى الجديد يسير فى الإطار الطبيعى للحفاظ على مصالحهم وبقائهم، ولو وصل الأمر بهم لشن حروب شاملة وغير مسبوقة على هذا النظام الثورى الوليد الجديد. ولذلك لن يكون مفيدا التعامل معهم بوسائل تقليدية تفترض فيهم حسن الظن وصحوة الضمير. بل إن الأمر يحتاج لإدارة ثورة حقيقية لاقتلاع الفساد بكل مظاهره ومن جذوره فى كل مناحى الحياة فى مصر، وبنفس الوسائل الثورية، ودون إضاعة الوقت، فكل ثانية تمر يجدد فيها المفسدون جلدهم وينوعون أسلحتهم، ويوحدون صفهم ويبدون أنهم لن يتراجعوا أبدا مهما كلفهم ذلك من جهد أو مال. فهل من وقفة جادة لإنقاذ مصر ومستقبلها وثورتها قبل فوات الأوان؟