أ.د/ عبد الرحمن البر من روائع أمير الشعراء أحمد شوقى؛ قصيدة يتناول فيها قصة إحدى العصافير وهى تعلم ابنها الطيران، يقول فيها: رأيتُ فى بعضِ الرياضِ قُبَّرَةْ *** تُطَيِّرُ ابنَها بأَعلى الشَّجَره وهْى تقولُ: يا جمالَ العُشِّ *** لا تعتَمِدْ على الجَناح الهَشِّ وقِفْ على عودٍ بجنبِ عودِ *** وافعل كما أَفعلُ فى الصُّعودِ فانتقلَت من فَننٍ إلى فَنَنْ *** وجعلتْ لكلِّ نقلة ٍزمنْ كى يَسْتريحَ الفرْخُ فى الأَثناءِ *** فلا يَمَلُّ ثِقَلَ الهواءِ لكنَّه قد خالف الإشاره *** لمَّا أَراد يُظهرُ الشَّطارهْ وطار فى الفضاءِ حتى ارتفعا *** فخانه جَناحُه فوقعا فانكَسَرَتْ فى الحالِ رُكبتاه *** ولم يَنَلْ منَ العُلا مُناهُ ولو تأنى نالَ ما تمنَّى *** وعاشَ طولَ عُمرِهِ مُهَنَّا لكلِّ شيءٍ فى الحياة وقتهُ *** وغاية ُ المستعجلين فوته! هذه قصة رمزية للذى يستعجل فى أموره، وفى حكمه على الأشياء، وفى تقييمه للأفكار والأشخاص، ولا يتأنَّى حتى يتبين الصواب، ويتثبت من الأمر، وتلك العجلة طبع فى كثير من الناس، وقد قال تعالى ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ يعنى طبعه العجلة فى الأمر، حتى إنه ليستعجل الهلاك ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ ولكن من رحمة الله به أنه لا يعجل له الشر الذى يريده، بل يمهله ويريه الآيات، ويعطيه الفرصة بعد الفرصة ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِى إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. والعَجُول كثيرُ الوقوع فى الخطأ، قليلُ التقدير لعواقب الأمور،ومن كلام الحكماء: «إياك والعجلة، فإنها تكنّى أم الندامة، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويحمد قبل أن يجرب ولن تصحب هذه الصفة أحدا إلا صحب الندامة وجانب السلامة». وقد رأينا كيف أن استعجال سيدنا موسى عليه السلام فوَّت عليه وعلينا معرفة المزيد مما يفعله الخضِر عليه السلام، حتى إن النبى صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه البخارى: «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا». لهذا فقد دعا النبى صلى الله عليه وسلم إلى التأنى، وذم العجلة، فأخرج أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «التَّأَنِّى مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وفى رواية الترمذى: «الأَنَاةُ مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وأخرج أبو داود عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: «التُّؤَدَةُ فِى كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ، إِلاَّ فِى عَمَلِ الآخِرَةِ». قد يدرك المتأنّى بعض حاجته*** وقد يكون مع المستعجل الزلل ومن أسوأ ما تقع فيه العجلة: التسرع فى الحكم على الأمور من غير وقوف على حقيقتها وظروفها، ولا مراجعة لما وراءها، بل يحمل حبُّ الشهرةِ والظهورِ البعض على التعليق على ما لا علم له به، وانتقاد ما لا وقوف له على حقيقته وأبعاده، فإذا ما اتضحت الأمور وبانت الحقائق وجدته كمن امتلأ فمه ماء لا يكاد ينطق، والأعجب أن يتكرر هذا من الشخص مرات عديدة ولا يفكر فى مراجعة هذا المنهج الفاسد فى النظر إلى الأمور وتقييم الوقائع والأشخاص. ومن أسوأ ذلك أيضا: مسارعة البعض إلى الرد على الكلام قبل أن يتمه قائله، بل قبل أن يفهم ما يقصده قائله، فيفترض أن المتكلم يقصد شيئا ما ويأخذ فى انتقاده، وهو بعيد كل البعد عما قصده المتكلم، ولله در يحيى بن خالد البرمكى الذى أوصى ابنه جعفراً فقال: «لا تَرُدَّ على أحدٍ جواباً حتى تفهم كلامَه؛ فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهلَ عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمتَه فأَجِبْه، ولا تتعجلْ بالجواب قبل الاستفهام، ولا تَسْتَحِ أن تستفهمَ إذا لم تفهم؛ فإن الجواب قبل الفهم حمقٌ». ما رأيك عزيزى القارئ فيما يفعله كثير من المنتقدين للرئيس الدكتور محمد مرسى؛ حيث اتهموه بعدم الثورية لأنه قَبِل أن يخوض الانتخابات فى ظل حكم العسكر، وزعموا أن لن يسقط حكم العسكر ولن يسقط الإعلان الدستورى المكبل، تنفيذا لصفقة مزعومة عقدها الإخوان مع العسكر، ولن يقدم للثوار شيئا ولن يخرج معتقليهم من السجون، ولن يتمكن من تغيير النائب العام، ولن يحافظ على دماء الشهداء، وإذا بالرئيس مرسى بعد أناة وحكمة ومشاورة لأهل الرأى يفاجئهم فى الوقت المناسب بإسقاط حكم العسكر الذى استمر نحو ستين عاما، وبإسقاط الإعلان الدستورى المكبل، وبالعفو عن كل الثوار المعتقلين والمحكومين، وبتغيير النائب العام، وغير ذلك من القرارات التى لم يكن غير مرسى ليقتحمها ويتخذها، فتمتلئ الأفواه ماء، ويبدأ طابور الذين يلتمسون العيوب فى اختراع عيوب جديدة والبحث عن شىء يستمسكون به لمحاصرة الرئيس والتدليل على فشله، والأدهى أن بعض من كان يطالب الرئيس مرسى بالتعجيل باتخاذ هذه القرارات هم من انتقدوها أو عابوها. يا سادة يا كرام إن الحكمة تقتضى وضع الشىء فى موضعه، واتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب حتى يتحقق به الغرض المقصود، فربما كان الاستعجال بقرار ما قبل أوانه سببا فى فساد كبير، لكنه حين يصدر فى توقيت مناسب يحقق مكاسب عظمى للأمة: إذا لم تستطع أمراً فدعه*** وجاوزه إلى ما تستطيع وفى هذا الإطار جاءت قرارات الرئيس مرسى فى توقيتاتها المناسبة، ونأمل أن تأتى سائر القرارات كذلك حتى تتحقق كامل أهداف ثورتنا العظيمة فى وقت قريب بإذن الله. وهنا أذكِّر -فقط من باب التذكير لا غير- بموقف من السيرة النبوية العطرة؛ فقد كان عبد الله بن أبى زعيم المنافقين يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر وغيره من الصحابة رضى الله عنهم يستأذنون فى قتله فيرفض النبى صلى الله عليه وسلم، ويترك الناس -بمن فيهم آل عبد الله بن أبى- يكتشفون الحقيقة حتى صار الجميع هم من يعاتبه ويوبخه؛ ففى سيرة ابن هشام: «وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنِّفُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ، حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ: كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ قُلْتَ لِى اُقْتُلْهُ، لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُ، قَالَ عُمَرُ: قَدْ وَاَللَّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِى». إنها الحكمة التى يتعلم منها الرئيس مرسى وكل من يريد أن يسير بأمته نحو الاستقرار والنهوض بشكل صحيح أن يتخذوا القرار فى الوقت المناسب: إذا هبت رياحك فاغتنمها*** فإن لكل خافقة سكون لا يعنى هذا أن نقف صامتين فى انتظار القرارات التى يتخذها الرئيس والحكومة، بل إن دورنا أن ننير الطريق أمامهم بآرائنا ومشورتنا وتصحيحنا لما نرى من أخطاء، وأن نطالبهم دائما بالشفافية وتوضيح ما يمكن توضيحه من الحقائق حتى نسهم معهم فى بناء رؤية صحيحة للحدث والتعامل المناسب معه، والتفهم الواضح لما قد يكون من تأخير أو تأنٍّ فى أمر من الأمور. ولا أتصور أن دورنا -كما طالب البعض- هو التربص بالرئيس والتماس العيب للبرآء وتضييق الخناق على متخذ القرار، ولا أن نكون ناقدين لكل ما يصدر من قررارات ومحرضين على التظاهر وعدم القبول لكل قرار، ومحركين لفئات الشعب المختلفة للنزول إلى الشارع فى كل صغيرة وكبيرة، فهذا عبث بالوطن وبالمستقبل، وفهم مغلوط وخطير لمعنى المعارضة السياسية، جعل بعض الكتاب الذين كانوا يملئون الصفحات بالحديث عن فساد النظام البائد، لمجرد الرغبة فى المعارضة يتبنون الدعوة للتصالح مع رأس النظام البائد وتكريمه! (هكذا يتحدثون عن تكريمه!). مرحبا بالمعارضة التى تبحث عن مصالح الأمة وتمد يدها للإصلاح، وأما الذين يعتبرون المعارضة رفضا لكل ما يصدر عن الرئيس والحكومة ولو كان حقا وفى صالح الأمة فنقول: سلاما.