لم تكن الأخبار المثيرة للقلق والتحذيرات التي وجهتها السفارة الأمريكية والكندية لرعاياها في مصر إلا مشاركة من نوع خاص في إحياء الذكرى الخامسة لمذبحة ماسبيرو التي قضى قتل فيها عشرات المسيحيين تحت مجنزرات العسكر وبرصاص قوات الجيش بعد مظاهرات حاشدة احتجاجا على هدم كنيسة بالماريناب بأسوان. وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ، إنه عادة ما تطلق السفارات والهيئات الأجنبية العاملة في مصر تحذيرات مماثلة لرعاياها في أوقات مرتبطة بأحداث واشتباكات في الثورة المصرية التي وقعت في الخامس والعشرين من يناير من عام 2011.
كانت سفارات أمريكا وكندا وأستراليا بالقاهرة قد حذرت رعاياهما من التواجد اليوم الأحد، في الأماكن المزدحمة، وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا استنكرت فيه هذه التحذيرات، مؤكدة أنها تمت دون تنسيق ودون مبرر.
ومنذ عدة أيام، رفضت سلطات الانقلاب التصريح لبعض الحركات القبطية بإحياء ذكرى أحداث ماسبيرو، وأصدر "اتحاد شباب ماسبيرو" بيانًا يتضمن تأييدًا لفعاليات إحياء الذكرى في الخارج، سواء تبلورت آلياتها في مؤتمرات، أو تظاهرات بالولايات المتحدةالأمريكية، ومناطق أخرى بالمهجر، لافتًا إلى دعمه حراك أقباط الخارج بكل السبل.
وجاء البيان: "لن نعدم وسيلة لإحياء ذكرى الشهداء"، ممهورًا ب"رغبة مكبوتة" لدى نشطاء أقباط في تنظيم فعالية بمحيط مبنى الإذاعة والتليفزيون مساء الأحد المقبل، في إطار قانوني عبر تقديم طلب لقسم بولاق يتضمن توقيت "وقفة الشموع" منزوعة الهتافات حسبما تضمن نص البيان.
بدأت أحداث ماسبيرو من هناك أقصى الجنوب المصرى بمحافظة أسوان، قرية المريناب على وجه التحديد، حيث قام أهالى من القرية بهدم مبنى اتخذه الأقباط كنيسة بدعوى أنه غير مرخص. وعلى خلفية الحادث نظم الأقباط فى القاهرة ما يسمى ب"يوم الغضب القبطي"، وكان فى التاسع من أكتوبر، فيما كانوا دخلوا فى اعتصام أمام مبنى ماسبيرو فى الرابع من نفس الشهر.
وجاء يوم الغضب ذلك ملخصًا فى ماسبيرو من دوران شبرا متوجهة إلى ماسبيرو انتهت باشتباكات. ورفع المشاركون خلال اليوم لافتات طائفية، مثل "فداك يا صليب"، فيما تدخلت قوات الأمن واشتبكت مع المتظاهرين بغرض فض التظاهرة، ثم انسحبت قوات الشرطة، وتقدمت إلى الاشتباكات قوات الشرطة العسكرية بمدرعاتها ودباباتها، وهى المعركة التى كانت محسومة للجيش بسقوط 24 إلى 35 شخصًا، أغلبهم من الأقباط.
فيما كان القس فيلوباتير والراهب متياس، أحد أبرز الشخصيات المشاركة فى الاعتصام، ممارسين نوعًا من التحريض للمعتصمين، فى المقابل انسحبت حركتا "اتحاد شباب ماسبيرو وأقباط بلا قيود"، مبررين موقفهما برفضهما لمشاركة الجلابيب السوداء فى العمل السياسى، يقصدون دخول رجال الدين السياسى فى قرارات الأقباط السياسية.
يوم الغضب
وقال شهود عيان إن الأقباط كانوا فى اعتصامهم مسالمين، وأن قوات الأمن هى من اعتدت عليهم، وأطلقت عليهم النيران وأن مركبات الجيش دهست المحتجين، وقامت بإطلاق القنابل المسيلة للدموع، بهدف تفريقهم، بعد أن تردد أنهم ينوون الاعتصام المفتوح أمام المبنى، ما أدى إلى انتشار حالة من الفوضى. تسارعت الأحداث سريعًا بغض النظر عن لحظة بداية الأحداث، حيث أقدم المتظاهرون على إحراق أربع سيارات بينها سيارة للشرطة وحافلتان صغيرتان وسيارة خاصة، كما خلعوا الأعمدة الحديدية على جانبي الجسر بهدف استخدامها كدروع فى مواجهة الجيش، وبثت بعض القنوات الإعلامية أخبارًا عن وجود بلطجية ومندسين وفلول الحزب الوطنى بهدف إشعال المكان وتأجيج العنف، فضلًا عن إطلاق نار مجهول المصدر، علمًا بأن المسيرة، التى بدأت قبطية، انضم لها عدد من الجهات المناوئة لسياسة المجلس العسكرى فى مصر، ولم تقتصر على الأقباط فقط.
وبعد نجاح الجيش فى ضرب طوق أمنى حول مبنى ماسبيرو وتراجع المتظاهرين إلى كورنيش النيل أمام المبنى، ظهر مجهولان يستقلان دراجات بخارية ودخلا فى حماية الشرطة العسكرية واعتديا على المتظاهرين بالجنازير. فى الوقت نفسه، توجه العشرات من الشباب المسلمين والمسيحيين إلى ميدان التحرير هاتفين بسقوط الحكم العسكري، ومنددين بالتعامل العنفي للأمن، ولم يفلحوا فى الوصول إلى ماسبيرو لكشف «الحقيقة»، وسرعان ما تمكنت قوات الأمن من السيطرة على الوضع داخل ميدان التحرير، وتم إلقاء القبض على العشرات، وتقهقر بقيتهم إلى خارج الميدان، كما وصل عدد من السلفيين إلى منطقة ماسبيرو، مرددين هتافات «إسلامية إسلامية» كما قام بعد ذلك عدد من المتظاهرين بإشعال النيران فى سيارتين، ومنعوا رجال الدفاع المدني من إطفائهما وانتقلت الاشتباكات إلى شارع رمسيس، ما دفع إلى إعلان حظر التجول فى وسط القاهرة من الثانية فجرًا وحتى السابعة صباحًا.
ومع قلة أعداد المعتصمين، منعت الشرطة العسكرية دخول السيارات التي تحمل البطاطين للمعتصمين، وألقت البطاطين في النيل، وفقًا لتقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حول الأحداث.
عقب ذلك بدأت الشرطة العسكرية فض الاعتصام بالعصا وإطلاق النار في الهواء، مما أسفر عن 75 مصابًا بالكدمات والجروح والكسور.
فى اليوم التالى، ظهر فيديو لمعتصم يدعى رائف أنور إبراهيم قامت قوات الشرطة العسكرية بالاعتداء عليه بالضرب أعلى الكوبرى، وكشف الفيديو عن إلقاء الجنود لرائف على الأرض والاعتداء عليه بالضرب والركل بالأقدام.
شهود عيان
وقال المحامى عاصم قنديل أنه إثناء وجوده فى مكتبه بالعقار 121 المجاور لمبنى ماسبيرو سمع إطلاق نار بشدة وإنه شاهد من نافذة مكتبه المدرعات وهى تطارد المتظاهرين، بالإضافة إلى قيام مجموعة من ضباط الشرطة العسكرية والأمن المركزى بالصعود إلى العقار وتكسير ألواح الزجاج الموجودة به من الدور الأول إلى الدور ال12، بالإضافة إلى دخول جميع الشقق الموجودة بالعقار والاطلاع على بطاقات الرقم القومى لجميع الموجودين، وعلمت بعدها أنهم كانوا يطاردون بعض المتظاهرين وأثناء نزولي من العقار بعد بداية الأحداث بنحو 4 ساعات وجدت عددًا كبيرًا من الجثث فى المدخل تم نقلها من قبل قوات الأمن الموجودة بالمكان، مشيرًا إلى أنه تقدم ببلاغ بعدها مباشرة إلى النيابة العامة التى قامت بتحويله إلى النيابة العسكرية.
ويكمل محمد الزيات، أحد شهود العيان، أنه أثناء وجوده ضمن المتظاهرين يوم الأحد الماضى قتل أحد الأشخاص بجواره بطلق ناري فى رأسه وقال لم أكن أعلم هل هو مسيحي أو مسلم وحينما وقع على الأرض وحاولنا أن نحمله شاهدنا مدرعة قادمة نحونا بسرعة جنونية فألقينا به وهربنا لننجو من موت محقق.
تقرير الشرطة العسكرية
خرج تقرير الشرطة العسكرية عن الأحداث باتهام المتظاهرين ب"التعدي بالضرب والأحجار على أفراد الشرطة العسكرية، وإحراق مركبات عسكرية ومدنية، وحمل أسلحة، وسرقة أسلحة أخرى من أفراد الجيش".
وقال التقرير إن دهس المتظاهرين جاء نتيجة "محاولة الجنود الفرار من الهجوم عليهم"، وإن "الشرطة العسكرية استخدمت الرصاص الفشنك". واتهم تقرير الشرطة العسكرية، المتظاهرين بأنهم "من العناصر الهدامة التي تحاول إحداث وقيعة بين القوات المسلحة والمجتمع المدني، وإشعال الفتنة الطائفية".
كما اتهم المتظاهرين بمحاولة اقتحام مبنى الإذاعة والتلفزيون والقيام بأعمال بلطجة بالشوارع والميادين وإحداث التلفيات ببعض العربات وقام حوالي عدد 3500 فرد بالسير في اتجاه رمسيس وإطلاق الأعيرة النارية أمام المستشفى القبطي وإشعال النيران بأحد الأتوبيسات المدنية، وامتدت النيران منه إلى الطابق الأول بالعقار الكائن أمام الهيئة القومية للأنفاق بجوار المستشفى لترويع أمن المواطنين، كذا احتراق أكثر من عدد 10 عربات وتم السيطرة على الحريق بواسطة 4 عربات دفاع مدني.
تحقيقات "فشنك"
تم تقسيم ملف القضية إلى جزأين: الأول لدى القضاء العسكري، وقيد برقم 5447 لسنة 2077، واستندت النيابة العسكرية في قرار الإحالة للمادة 278 من قانون العقوبات الذي جاء فيه أنهم "تسببوا بخطئهم في موت أربعة عشر شخصا من المتجمهرين أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وكان ذلك ناشئا عن إهمالهم وعدم احترازهم كونهم سائقي المركبات والمدرعات التابعة للقوات المسلحة والتي قادوها بطريقة عشوائية لا تتناسب وحالة الطريق الممتلئ بالمتجمهرين مما أدى إلى اصطدامهم بالمجني عليهم".
وفي 27 أبريل 2012 قررت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، ومحامو أسر شهداء ماسبيرو، الانسحاب من أمام المحكمة العسكرية في قضية مقتل المتظاهرين السلميين وقالوا في بيان مشترك إن القضاء العسكري أثبت مرة أخرى، وبعد اثنتي عشرة جلسة، أنه غير معني بتحقيق العدالة.
أوضحت المبادرة أن نظر القضية أمام القضاء العسكرى جاء بالمخالفة لقرار رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المؤرخ في أكتوبر 2011 والمنشور بالصفحة الرسمية للمجلس على موقع فيسبوك، بإحالة التحقيقات بشأن مذبحة ماسبيرو إلى القضاء المدني "نيابة أمن الدولة" والتي أحالتها بدورها إلى قضاة تحقيق منتدبين من قبل وزير العدل.
وأضاف البيان المشترك أنه فيما يتعلق بممارسات القضاء العسكري في تلك القضية، فقد اقتصرت المحاكمة على إفراغ أية أدلة يقدمها دفاع الضحايا من مضمونها، أو تأجيل البت في طلبات تعديل وصف الاتهام من جنحة القتل الخطأ إلى جناية القتل العمد، وكذلك الالتفات عن الطلبات التي تشير إلى أن هناك متهمين آخرين غير الجنود الثلاثة الذين قُدموا للمحاكمة لمسئوليتهم عن تلك المذبحة.
وقد قضت محكمة جنح عسكرية شرق في 2 سبتمبر 2012 ، بالسجن لمدة عامين للجندي محمود سيد عبد الحميد سليمان، 27 عاما، من قوة ك. 7 شرطة عسكرية، والجندي كرم حامد محمد حامد، 27 عاما، من قوة ك.7 شرطة عسكرية، والسجن لمدة ثلاث سنوات للجندي محمود جمال طه محمود، 22 عاما من قوة س.5 شرطة عسكرية، والتابعين جميعا للمنطقة المركزية العسكرية.
أما الجزء الثاني من التحقيقات فقد تولاه قضاة التحقيق برئاسة المستشار ثروت حماد، وقد قرر حفظ التحقيقات مع 54 شخصا من بينهم رجال دين مسيحي ومسئولين بالتلفزيون المصري لعدم توافر أدلة الإدانة.
بينما تمت إحالة مايكل عادل نجيب ومايكل مسعد، إلى المحاكمة بتهمة سرقة سلاح آلى رشاش مملوك للقوات المسلحة لا يجوز حيازته من أعلى مدرعة من طراز فهد، وحوكم المتهمان أمام محكمة جنايات شمال القاهرة، والتي قضت بالحبس لمدة عامين مع الشغل، بكفالة مالية قدرها 500 جنيه، فيما قضت ببراءة 16 آخرين.