يبدو أن تاريخ دولة العسكر توقف عند 4 يونيو 67، وصارت تستنسخ كل التفصيلات التي كانت بمثابة المقدمة المنطقية لنكسة تدفع مصر ضريبتها باهظة إلى الآن بعد حرب الأيام الستة المصطلح المتعارف عليه عالميًّا التي فتحت الباب على مصراعيها لترسيخ قواعد حكم البيادة، وزادت عليها الانفتاح على الكيان الصهيوني والتجرد من الواقع العربي. 48 عامًا مرت على ذكرى النكسة التي خسرت فيها مصر تراب سيناء كاملاً لصالح الكيان الصهيوني بعد معارك خان فيها الجنرالات شرف العسكرية وتجاهلوا التهديدات القادمة من الشرق واكتفوا بالتأهب للقتال بالسهر حتى الصباح في أحضان الراقصات في حفلات كان بطلها وزير الحربية نفسه والرجل الثاني في الدولة عبد الحكيم عامر بصحبة قيادات الجيش، فضلاً عن حفلات أخرى صاخبة في قاعدة أنشاص الجوية، ليستيقظ الوطن على هزيمة مذلة بعد معركة قتل فيها عشرات الآلاف من الجنود بعد أوامر الانسحاب العشوائي، وانتهت إلى ضياع القدس والمسجد الأقصى ضمن 5 مدن احتلاها الصهاينة دون معاناة. ومن عبدالناصر إلى السيسي لم يختلف الوضع كثيرًا، وإنما سار قائد الانقلاب على خطى مؤسس دولة العسكر شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى سيطرت حالة من القلق على المراقبين من سيناريو مشابه لما حدث في 5 يونيو ويفيق الشعب المصري من سكرة انقلاب 3 يوليو على نكسة جديدة في وطن شطره العسكر دون رحمة. 5 مشاهد تؤكد أن اليوم أشبه بالبارحة، وتعكس حجم التخلف وتجمد العقلية الذي يسيطر على جنرالات دولة العسكر التي تتمسك بتحقيق أكبر المكاسب وإهدار مقدرات الدولة حتى وإن انتهى الحال بالوطن إلى الخراب أو الاحتلال:
القمع والإعدام منذ يوليو 52 وحتى يوليو 2013 كانت أحكام الإعدام وحملات الاعتقالات هي القاسم المشترك بين انقلاب الأمس واليوم، حيث شرع ناصر عقب استيلائه على الحكم بعد الإطاحة بقائده اللواء محمد نجيب أول رئيس جمهورية في تاريخ مصر ووضعه رهن الإقامة الجبرية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، على ذبح المعارضة من الوريد إلى الوريد من أجل الانفراد بالسلطة وإزاحة كل الخصوم السياسيين والانقلاب على حلفاء الأمس.
ولم يكن لناصر ورفاقه من "الضباط الأحرار" أن يتمكنوا من إنهاء الحقبة الملكية لولا التودد لجماعة الإخوان والاستعانة بظهيرها الشعبي من أجل مباركة تحركات الجيش ضد فساد الملك، إلا أن البكباشي لم يكد يصل إلى السلطة حتى انقلب على حلفائه وراح يدبر التفجيرات ويثير الفوضى من أجل خلق فزاعة التيار الإسلامي لدى الشعب.
ودبر النظام العسكري حادث المنشية الهزلي ومسرحية اغتيال عبد الناصر من أجل إقامة محاكمات استثنائية صدر خلالها أحكامًا جائرة بالموت في عام 54 وتدور عجلة الإعدام السياسي في مصر، قبل أن يعاود الكرّة من جديد بعد 10 سنوات ونيف وتحديدًا في عامي 65 و66 بسلسلة إعدامات فاشية، جاء على رأسها المفكر الإسلامي البارز سيد قطب.
وبينهما عجت زنازين عبد الناصر وعصابة العسكر بعشرات الآلاف من المعارضين والمناهضين وبسطاء الشعب لم تميز بين تيار إسلامي وآخر شيوعي أو ليبرالي أو حتى اشتراكي من فصيلة ناصر.
واليوم لم يختلف الحال كثيرًا بعد تنفيذ حكم الإعدام في 7 أبرياء حتى الآن، والحكم على قرابة 1000 بالموت، فضلاً عن أحكام جائرة بالمؤبد والمشدد على المئات، واعتقال قرابة 45 ألف من الثوار وفقًا لتقارير المنظمات الحقوقية، إلى جانب اقتحام وحصار المدن والقرى على غرار ما حدث في دلجا وناهيا وكرداسة والميمون والمطرية والبصارطة وغيرهم، وقتل الآلاف في الشوارع والميادين والجامعات قبل فض اعتصام رابعة وحتى الشهيد إسلام عطيتو.
إعلام الانقلاب من يمكن أن ينسى أكاذيب أحمد سعيد التي روجها مع الساعات الأولى لنكسة يونيو وإسقاط مصر مئات الطائرات الصهيونية وترديد صدى صراخه في الإذاعة المصرية بأن الجيش بات على مشارف تل أبيب وفي الخلفية تدوي فرحة الشعب بالنصر المظفر، الذي ما لبث أن استيقظ على هزيمة نكراء وخيبة أمل كبيرة.
ويبدو أن مدرسة أحمد سعيد لا زالت مسيطرة على إعلام العسكر دون تجديد أو تحديث أو تطوير؛ حيث تمخضت تلك العقلية الفاشلة عن أذرع إعلامية مخابراتية إلا أن إدارتها تحولت من الاتحاد الاشتراكي إلى الشئون المعنوية، فكانت المحصلة استنساخ عشرات أحمد سعيد من أمثال عمرو أديب ووائل الإبراشي وأحمد موسي وتوفيق عكاشة وإبراهيم عيسي وعادل حمودة وعمرو أديب ولميس الحديدي وغيرهم العشرات ممن يتلقون الأوامر من سلطة العسكر ويحصلون على "إسكربت" الحلقات من مكتب عباس كامل "بطل التسريبات" ويمارسون الكذب والتلفيق والتشويه والفبركة بغباء منقطع النظير.
حرب اليمن في أوائل ستينيات القرن الماضي قرر ناصر وفقًا لمرجعيته النرجسية ورغبته في الزعامة على حساب الوطن الدخول في مستنقع حرب اليمن ودعم انقلاب المشير عبد الله السلال على الإمام محمد البدر حميد الدين وإعلانه قيام الجمهورية وإنهاء المملكة المتوكلية، وزج عبد الناصر بعشرات الآلاف من الجنود في أتون معركة لا قبل لهم بها وحرب عصابات لا يجيدونها لم يعد منهم سوى العشرات، وتبقى مقبرة خزيمة والمقابر المجاورة لها في قلب صنعاء شاهدة على مئات الشواهد للجنود المصريين.
وامتدت حرب "فيتنام مصر" ثماني سنوات خاضت خلالها مصر حربًا ضد القبائل الموالية للإمام، ومن خلفه السعودية والأردن وبريطانيا وجرت معارك الحرب الضارية في المدن والأماكن الريفية، ما أجبر عبد الناصر على الزج ب70 ألف جندي مصري حتى لا تهتز صورته على وقع هزيمة في بلاد الخليج، واستمر استنزاف الجيش المصر والاقتصاد حتى خسرت مصر غطاء الذهب، وخَوَت خزانة الدولة وخرج الوطن مثقلاً بالأوجاع والمتاعب والذي لعب دورًا في هزيمة يونيو في 67.
وبعد 48 عامًا يحاول السيسي السير على درب ناصر في اليمن من أجل حفنة من "الرز" وسداد فاتورة دعم الانقلاب بالمشاركة العشوائية في حرب جديدة على الأرض نفسها ضمن تحالف "عاصفة الحزم" الذي تقوده السعودية.
وبالفعل يرابط عدد من الجنود المصريين على عتبات باب المندب، فيما يرهن المشاركة البرية على أرض المعركة بضخ مزيد من الأموال ومحاولة ابتزاز أكبر قدر من المكاسب على حساب الجنود المصريين.
جناح الراقصات يمكن قراءة مذكرات اعتماد خورشيد، أو تتبع السيرة الذاتية لصفوت الشريف، لاستجلاء الدور الذي تجيده الفنانات في خدمة السلطة العسكرية والسهرات المخابراتية المصنوعة باحترافية لابتزاز الزعماء أو الترويج لنظام تلطخت يديه بالدماء ولاحقه العار.
السيسي استوعب الدرس الذي أدركه عبد الناصر عقب انقلاب يوليو 52، فالرئيس الراحل حرص على ضمان ولاء الفنانين من أجل صناعة المجد، وهو الأمر الذي جمع أهل الفن والطرب في طابور طويل للتغني والتطبيل لأمجاد القائد الملهم عبر أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وفريد التي لا تخلو في أي من أبياتها من اسم "ناصر". وبالمثل سار قائد الجيش عبد الحكيم عامر رفيق الانقلاب على الدرب وجمع حوله من الفنانين الكثر، إلا أنه كان أضعف من صديق العمر فانتهي به الأمر إلى الزواج من برلنتي عبد الحميد، وبالمثل فعل وزير الحربية شمس بدران بالزواج من مها صبري ليعلن الزواج الكاثوليكي بين العسكر والفنانات.
ووفقًا لمذكرات اعتماد خرشيد فلا مجال للتشكيك في الجناح الفني الذي أنشأته المخابرات من أجل تحقيق مصالح سياسية، حيث وصفت دور صفوت الشريف ب"الشيطان الأصغر" الذي يتبع آخر أكبر "صلاح نصر" رئيس جهاز المخابرات والذي أجبر زوجها على تطليقها من أجل الزواج بها، رغم كونها حاملاً، ولعبت خلاله أكثر الفنانات الدور بامتياز وفقًا لتوجيهات السلطة العسكرية وحقق الجهاز نجاحًا باهرًا. دولة العسكر لم تحاول الابتكار وإنما عملت على استنساخ النماذج التي رسخها العسكر في الاستعانة بالفنانات والراقصات في المهام القومية ولخدمة الأمن القومي، فلم تخل لقاءات السيسي من فنانين بعينهم وفنانات بذاتهم، حتى قرر قائد الانقلاب أن يستعين بتلك القوة "الناعمة" في زيارته إلى ألمانيا، خاصة وأنها مجربة و"مفعولها أكيد".
وعلى الفور صدرت التعليمات، وغادرت القاهرة طائرة مصرية خاصة تابعة لشركة "آير كايرو" متجهة إلى برلين، وتضم وفدًا "مخابراتيًا"، لدعم زيارة عبد الفتاح السيسي والتي يلتقي خلالها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وشهدت صالة رقم 4 والمخصصة لإقلاع الطيران الخاص توافد عدد من الإعلاميين والفنانين والسياسيين، وتم إنهاء إجراءات سفرهم سريعًا، تضم يسرا وإلهام شاهين وهالة صدقي ومحمد الصاوي وأحمد بدير وخالد سليم وخالد يوسف ولبلبة، وأيمن عزب وماجد المصري وممدوح عبد العليم ومحمد كريم وإيهاب توفيق وأشرف عبد الغفور، وهشام عباس ولقاء الخميسي ومدحت صالح، إلى جانب الأذرع الإعلامية عادل حمودة ووائل الإبراشي ومصطفى شردي ويوسف الحسيني ودعاء جاد الحق ودندراوي الهواري ومحمد الدسوقي رشدي. الغلاء والوباء تسلم ناصر مصر وهي في أزهى عصورها الاقتصادية؛ حيث كان الجنيه المصري يعادل 8 جنيهات إسترليني، إلا أن سياسات القائد العسكري الفاشلة ومغامراته الخارجية المخيبة جلبت على البلاد الغلاء وضرب الفقر 90% من الشعب المصري بعدما عجزت قوانين الانقلاب الاشتراكية في تحقيق العدالة على أرض الواقع، وإنما كانت المحصلة نهب أموال الأغنياء وتأميم ممتلكاتهم وضخها في خزائن وكروش الجنرالات. وبالمثل يفعل السيسي، بعدما استولى على السلطة في ظل معدلات نمو اقتصادي ملحوظ للرئيس الشرعي محمد مرسي، إلا أنه قرر الانقلاب على الثورة وضرب مكتسباتها في مقتل فاستنزاف مقدرات الدولة في حرب مزعومة على الإرهاب وخلق فزاعات أمنية لإخضاع الشعب، فبلغت الأسعار إلى انفجار غير مسبوق حتى بلغت الطماطم إلى 10 جنيهات للكيلو والبامية إلى 20 جنيهًا للمرة الأولى في تاريخ مصر، كما ألغى الدعم عن الفقراء لترتفع فواتير المياه والكهرباء والغاز إلى أرقام جزافية وترتفع أجرة المواصلات على وقع الارتفاع الفاحش في أسعار المحروقات والوقود، ليواصل العسكر تكبيل الشعب بالأسعار ولقمة العيش.
من انقلاب يوليو 52 إلى انقلاب يوليو 2013، ومن هزيمة يونيو 76 إلى تنصب السيسي يونيو 2014، يبدو أن تاريخ دولة العسكر يتوقف دائمًا عند حاجز 4 يونيو مكررًا نفس الجرائم في انتظار نكسة جديدة.