لم تكن صفقة تصدير الغاز من حقل «ليفياثان» إلى مصر اتفاقًا اقتصاديًا عابرًا، بل لحظة كاشفة لانحدار غير مسبوق في مفهوم السيادة، وارتهانٍ فجّ لأمن الطاقة المصري بإرادة الاحتلال الصهيوني، في واحدة من أخطر الصفقات التي وُقّعت في الظلام، وبصمت مريب من المؤسسة العسكرية، وتواطؤ فجّ من صحافة السلطة، وتطبيل فجّ يتقدمه ضياء رشوان، الذي انتقل من موقع «اليسار» إلى بوق تبرير الخيانة. بعد أربعة أشهر من المماطلة، خرج بنيامين نتنياهو بنفسه ليعلن تنفيذ الاتفاق مع مصر، صفقة قيمتها 34.67 مليار دولار حتى عام 2040، يضخّ بموجبها غازًا مسروقًا من مياه فلسطينالمحتلة إلى القاهرة، مقابل إنعاش خزينة الاحتلال بما لا يقل عن 58 مليار شيكل. لم يخفِ نتنياهو فرحته، ولم يتلعثم: إنها «صفقة تاريخية» تعزّز أمن إسرائيل ومكانتها الإقليمية.
الصفقة ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر فجاجة. تعديل اتفاق 2018، الذي بدأ تنفيذه عام 2020، أضاف 4.6 تريليون قدم مكعب من الغاز الإسرائيلي إلى السوق المصري، في وقت يرزح فيه المصريون تحت فقر غير مسبوق، وانقطاع كهرباء، وتضخم يلتهم الدخول. الغاز يُشترى من عدوّ تاريخي، وبالدولار، بينما تُجفف جيوب المصريين.
الصحافة العبرية لم تُخفِ الحقيقة: الاتفاق يضاعف الصادرات الإسرائيلية ثلاث مرات، ويموّل بنية تحتية عملاقة في «ليفياثان»، ويُرسّخ إسرائيل كمورد إقليمي لا غنى عنه. أي أن مصر، الدولة التي كانت يومًا قلب العروبة، تحولت إلى رافعة اقتصادية للاحتلال.
غاز مقابل سيادة؟
ما الذي حصل عليه نتنياهو مقابل موافقته بعد رفض استمر أربعة أشهر؟ سؤال تهرب منه القاهرة، بينما تلمّح التقارير إلى تنازلات سياسية وأمنية: غزة، المعابر، التنسيق، وربما ما هو أخطر. خبراء يؤكدون أن الكمية زادت، والسعر ارتفع، وأن ما لم يُعلن أخطر مما أُعلن.
الأخطر من ذلك أن الصفقة تثبت أن إسرائيل تملك مفتاح «إضاءة أو إظلام» مصر. تجربة 2023 و2024 و2025 لا تزال ماثلة: وقف إمدادات «تمار»، خفض إنتاج «ليفياثان»، تذبذب الإمدادات في ذروة الصيف، وانقطاع كهرباء دفع المصريون ثمنه حرًّا وقهرًا.
ومع ذلك… نعود للاعتماد على المصدر ذاته.
غاز كسلاح سياسي
حرب «طوفان الأقصى» كشفت الحقيقة العارية: الغاز الإسرائيلي ليس سلعة، بل سلاح سياسي. نتنياهو استخدمه للضغط، وعلّق الصفقة حين شاء، ثم أعادها حين نضجت شروطه. واليوم، بقبول القاهرة، يصبح أمن الطاقة المصري رهينة للتقلبات الأمنية والعسكرية للاحتلال، ولحسابات واشنطن و«شيفرون».
الخبراء يحذرون: ربط الطاقة بطرف معادٍ تاريخيًا هو مساس مباشر بالأمن القومي، وفتح لباب ابتزاز لا يُغلق. لكن من يسمع؟
صحافة صامتة… وتطبيل رسمي
في واحدة من أكثر القضايا خطورة، غابت الصحافة المصرية، إلا من تبريرات باردة، أو مقالات ترويجية تتحدث عن «الاستقرار» و«منع تخفيف الأحمال»، وكأن السيادة تُقايض بساعتين كهرباء. في المقدمة، يقف ضياء رشوان، الذي كان يومًا محسوبًا على اليسار، ليبرر ربط مصر بالاحتلال، ويقدّم الصفقة كإنجاز، لا كجريمة سياسية.
خيانة موصوفة
صفقة الغاز ليست إنقاذًا للاقتصاد، بل دعم مباشر لاقتصاد إسرائيلي متدهور، وتمويل لأجيال الاحتلال القادمة، على حساب شعب يُطلب منه التقشف والصبر. هي صفقة تضع رقبة مصر في يد عدوها، وتحول الطاقة من حق سيادي إلى أداة ابتزاز.
التاريخ لن ينسى من وقّع، ولا من صمت، ولا من طبّل. فالغاز قد يُشغّل محطات الكهرباء، لكنه أطفأ ما تبقى من وهم الاستقلال.